تتّصل جهة سياسية بمركز استطلاع للرأي قبل الانتخابات، وتطلب منه إجراءَ استطلاع لتحديد حجمها الانتخابي في هذه الدائرة أو تلك، فتبدأ القصصُ البوليسية المشوّقة.
يشمل الاتّفاق بنوداً عدة، منها ما هو خاص بطريقة إجراء الاستطلاع، وبنوعية المستطلعين وبعيّنة الأسئلة التي تُسأل ويمكن التلاعب بها لضمان الحصول على النتائج المرجوّة، كذلك يمكن أن يشمل الاتّفاق كلفة الترويج التلفزيوني في اعتبار أنّ نجوم شركات الاستطلاع يملأون الشاشات، ولكل خدمة كلفتها.
ماذا يمكن أن نسأل المواطن في هذه الدائرة أو تلك لكي ننال النتيجة المرجوّة؟ السؤال أحياناً يحدّد جواباً واحداً لا غير، وكيف يمكن أن نعود الى الجهة المستطلعة، بالأرقام المضخمة التي لا تتوافق إلّا مع قوس قزح من الألوان.
قد يكون العطب الأساسي في شركات استطلاع الرأي في لبنان انّ النتائج معدّة للنشر في وسائل الاعلام، وليس لكي تعرف الجهة المستطلعة حجمها الشعبي. وقد بدا من طريقة نشر الاستطلاعات أنّ الأرقام المضخّمة تهدف الى تيئيس خصوم الجهة طالبة الاستطلاع، وهذا بات يحصل في شكل ممنهج، بنحو بدا كأنّ هذا التواطؤ يهدف الى ضرب معركة الخصم في مهدها، وإحباط جمهوره، وهذا بالتأكيد يناقض حيادية المعركة الانتخابية، ويحمّل المسؤولية لهيئة الإشراف على الانتخابات، التي لم تجد الى الآن أيَّ تجاوز، وذلك على رغم أنّ حجم التجاوزات في بعض وسائل الإعلام وشركات الاستطلاع بات فاقعاً، الى درجة أنّ كثيراً من المحلّلين الاستطلاعيّين، يظهرون الى الرأي العام وكأنهم يتكلمون ليلَ السادس من أيار لإعلان النتائج. إنها استطلاعات الحروب النفسية.
للمقارنة يمكن العودة الى ما يحصل في الدول الديموقراطية، ففي الانتخابات الفرنسية تتولّى شركات استطلاع متخصّصة إجراء الاستطلاعات حول الانتخابات النيابية، وكذلك في الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تشهد أيّ إخفاقات في توقّع اتّجاهات الرأي العام إلّا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، علماً أنّ أكثر استطلاعات الرأي صدقية، تجريها مجموعة مؤسسات وتقدّم للرأي العام نتائج لا تخضع لأسلوب «غُبّ الطلب».
نماذج عدة حدثت في الايام والاسابيع الماضية، فقد روّجت مراكز استطلاع عبر معظم وسائل الإعلام توقعات حول نتائج الانتخابات في الساحة السنّية، وذهب البعض منها في دوائر كطرابلس الى إعطاء نتائج مسبقة، بطريقة غاب فيها الاحتراف.
التركيز كان مثلاً على أنّ ريفي يخوض معركته على مقعده، ولم ترجّح فوزه، وقد خالف الشارع نتائج هذه الاستطلاعات بنحوٍ نافر، حيث تأكّد بعد مهرجان إعلان لوائح ريفي في طرابلس وعكار أنّ معركة مفاجآت ستخاض في الدائرتين، وبعد هذين المهرجانين، ارتفعت حظوظ ريفي على لسان اصحاب الاستطلاع الى مقعدَين في طرابلس وثالث في عكار، وهذا يعطي مثالاً على تأرجح شركات الاستطلاع، وانخراطها في لعبة تسويق سياسية، ستقضي إن استمرّت على قطاع واعد وأساسي.
مثل آخر من أمثلة كثيرة يتعلّق بالمتن الشمالي، حيث حسمت شركات الاستطلاع معظم المقاعد ووزّعتها تبعاً لسياسة موجّهة تتم ترجمتها في وسائل الإعلام، والمقصود هنا رفع حظوظ كتلة «التيار الوطني الحر» الى أقصى أمنيات الوزير جبران باسيل، ونسف حظوظ اللوائح الأخرى وأبرزها لائحة النائب ميشال المر الى مرتبة الخسارة، هذا فيما لا تدلّ الوقائع على اكتساح عوني، ولا في المقابل، على خسارة لائحة المر، التي يفترض أن تأتي بالحجم الحقيقي الذي يمثله المر في المتن.
الامثلة كثيرة ومنها في دائرة جبيل ـ كسروان، حيث غطت الصور المباني «بالطول وبالعرض»، واحتلّت استطلاعات الرأي الشاشات كأنها تحاول «تبليع» الناخب أنّ هؤلاء هم المرشحون الفائزون، وفي هذه المعمعة، لوحظ غياب صور مرشح أساسي هو الدكتور فارس سعيد والذي لم تُشفق عليه استطلاعات الرأي بأيّ التفاتة، ومع ذلك فإنّ معركته السياسية تقدّمت الى درجة فرضت على شركات الاستطلاع الاعتراف بأنّ المنافسة على المقعدَين المارونيين، لا يمكن أن يحسمها استطلاع غُب الطلب، أو المعدل المرتفع لـ«اللايك» على صفحات الفايسبوك، فالاستطلاع غُب الطلب ليس اصواتاً في الصناديق، وكذلك «اللايك».