ليس سهلاً الوضوح في زمن الإبهام، خصوصاً إذا عنى ذلك (وهو يعني) فتح بعض الكتب المقفلة، وكشف صفحاتها ومدوّناتها ومضامينها وأسرارها.. ثم نشرها «من دون هوادة»!
وذلك يتماشى مع المألوف القائل بأن الحقيقة «مؤلمة»، أو «صعبة»، أو أمرّ من غيابها! وهي في هذه الأيام، وفي الشؤون الدموية والفتنويية والتخريبية والمَرَضية الطافحة في دنيا العرب و المسلمين، وبين أقوامهم وشعوبهم ومِللهم والنحل. تبدو واجبة الوجوب لتخفيف وطأة المرحلة الانتقالية، وإكمال عدّة الانتقال من واحدة قديمة الى أخرى جديدة!
وفي ذلك بعض العزاء للمنكوبين وإن كان لا يعوّضهم شيئاً! وبعض الرجاء للضحايا الذين دفعوا أثماناً باهظة لبضاعة لم تصل، وقد لا تصل قريباً.. وأساسها جبه الطغيان والاستبداد وأنظمة العسف والاكراه والبطش والرعب، والتجرؤ على المطالبة بالحرية ومشتقاتها، والشروع في العيش بكرامة.. أو بشيء من مضامينها!
والوضوح الصعب، في هذا المقام النكبوي، هو صنو الحقيقة الأصعب. القائلة، بأنّ الهلوسة بنظريات أكبر من قدرة أصحابها، تصيب الكبار والصغار على حدّ سواء وإن اختلف الدافع المحرك لذلك المرض: يركّب الجامح الروسي مشروعه على التاريخ القريب. ويستند الى قدرات في الصناعة العسكرية التقليدية والافنائية يُعتدّ بها، ويُحسب حسابها، ويُطلب جناها. ويرفد ذلك بحسابات واقعية وليست متخيّلة. وبأداء محسوب مقدار التهوّر فيه! كأن ينتهز فرصة ماسيّة هي انكسار ميزان الردع تبعاً لانسحاب القطب الدولي الأول من الشارع الى الشرفة. ومن الدور القيادي في الميدان الى كرسي التفرج من الخلف!.. ويذهب في الانتهازية الى مدّيات بعيدة!
ويركّب الجامح الإيراني مشروعه على توليفة تخلط المعطى الديني بالقومي. ويستند بدروه الى تاريخ (بعيد) وماضٍ تليد! ثم الى حسابات لا تبتعد كثيراً عن تلك الروسية! لكن مع جرعة انتهازية إضافية: إستغلال انكفاء الرادع الدولي (الأميركي تحديدا) وفي موازاة حالة «وهن» ضاربة في بعض العالم العربي!
ويركّب الطامح القطري (على ما تفصح عملية فتح الكتب المقفلة) «مشروعة» على قدرات مالية كبيرة. وعلى توليفة تجمع بين الجرأة على كسر ثوابت (مشتركة) والشطارة في لعبة التناقضات، والغلوّ في التمايز!
لكن في المثالَين الإيراني والقطري شيء أبعد من المثال الروسي: هذا الأخير يضع المصالح في مكانها المركزي المرموق، ويشتغل في «السياسة» تبعاً لها ولمقتضياتها ومتطلباتها وشروطها.. وبرغماتيته كافية لتقديمها على الأبعاد الأخرى المتصلة بفضاءات الأدلجة (القومية أساساً) وبنوستالجيا الدور القطبي «الراحل»! أما في ذينك المثالَين، فإنّ التوصيف يذهب بالمحفّزات الى خلطة تضع علم النفس في موقع متقدم على علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع! وتدمج التاريخ بالثأر والأحقاد والعُقد العصية على الحساب العقلي!
وإلا كيف، وبأي طريقة حسابية يمكن أن يوضع ذلك الهوس القطري، بكل ما يمكن أن يضرّ بالسعودية خصوصاً وبأهل ودول الخليج العربي عموماً؟! وبأشكال غرائزية غريبة ولا صلة لها بأي منطق سياسي أو ميداني أو ديني (أو مذهبي!) أو مصلحي؟!
وكيف وبأي طريقة حسابية يمكن أن يُوضع ذلك الهوس الإيراني بالدور المحوري أو القطبي من خلال توسل الفتنة وإشاعة التخريب والفوضى وتهميش الاستقرار النظامي والاجتماعي في دول الجوار.. ثم وضع الدين وقيمه المقدّسة في سياق سياسي ولا أغرب ولا أعجب؟!
.. في زبدة نتاج الوضوح الراهن مكرمة الحقيقة القائلة، بأن بعض العرب والمسلمين ارتكبوا في حق العرب المسلمين ما تعجز عنه ألف إسرائيل! وإن علم النفس صار حاجة ماسّة لتفسير ما تعجز عن تفسيره علوم السياسة والاقتصاد والجغرافيا والأخلاق الحميدة!
علي نون