موظفو الإدارة العامة يتقاضون دولاراً في اليوم ويُحرمون من المساعدة الاجتماعية وبدل النقل
بعد صراع مرير مع «مرض» إنكار انهيار سعر الصرف العضال لعامين ونيف، «أسلم» موظفو القطاع العام «الدوام»، معلنين الاضراب المفتوح. محاولات الصمود باللحم الحي لتسيير المرفق العام طيلة الفترة الماضية، لم تُقابل إلا بمزيد من الإذلال بحق الموظفين وعائلاتهم. فما يمارس بحقهم يصح وصفه بـ «المجزرة» المعيشية، في حين أن أموال الدولة تهدر أمام أعينهم.
التدني الفاضح في قيمة رواتب موظفي القطاع العام، دفعت بأحد الموظفين الطلب من التفتيش المركزي «التحقيق مع كل من يحضر إلى عمله، من غير المعنيين بالامور الصحية. إذ صار من المستحيل على أي موظف «نظيف الكف» أن يستمر بعد أن أصبح راتبه لا يعادل سعر صفيحتي بنزين.
يمّولون فشل الدولة… من «دمهم»
بالارقام، «يتجاوز مجموع الخسارة السنوية التي يتحملها موظفو القطاع العام (يبلغ عددهم 440 ألفاً بين فاعل ومتقاعد) نتيجة انهيار الليرة 7.5 مليارات دولار»، بحسب دراسة للأستاذ الجامعي والباحث المتخصص د. تيسير عباس حمية. فمجموع ما تنفقه الدولة اللبنانية على رواتب القطاع العام انخفض من حوالى 8 مليارات دولار سنوياً كانت تشكل 12 ألف مليار ليرة على سعر الصرف الرسمي، إلى 480 مليون دولار اليوم على سعر «صيرفة» الذي يقارب 24500 ليرة. وعلى سبيل المثال لا الحصر فالموظف الفقير الذي يتقاضى شهرياً مبلغ مليون ونصف المليون ليرة لبنانية، كانت قدرته الشرائية تعادل ألف دولار، أصبحت اليوم تعادل 50 دولاراً. وخسارته الشهرية تبلغ 950 دولاراً أميركياً. وعليه فان الموظفين الفقراء يدعمون الدولة سنوياً بما يعادل 7 مليارات و520 مليون دولار أميركي عبر خسارتهم تلك. وهم اليوم لا يستطيعون تأمين قوت يومهم، ولا طبابتهم، ولا تعليم أولادهم، ولا التنقل بسهولة، ولا يملكون أدنى مقومات العيش الكريم».
لا مساعدات وبدل نقل
من ضمن موظفي القطاع العام هناك يا يقارب 15 ألف موظف في الادارة العامة ( 10 آلاف في الملاك، 3 آلاف متعاقد وأكثر من 1500 أجير) بمتوسط دخل لا يتجاوز 2 مليون ليرة فقط. وباستثناء موظفي الفئة الاولى، أي المدراء العامين، فان الرواتب تبدأ بـ مليون و100 ألف ليرة في الفئة الخامسة، وتنتهي عند سقف 2 مليون ليرة في الفئة الثانية. وعلى الرغم من التدني الهائل في الأجور الذي يبدأ بـ 1 دولار يومياً لقسم كبير من الموظفين، وينتهي عند الفئة الثانية بحوالى 3 دولارات، فقد حرم موظفو الإدارة العامة من بدل النقل، ومن المساعدة الاجتماعية التي أقرت بمراسيم رئاسية في 28 كانون الثاني 2022. فالمساعدة الموعودة بقيت «حبراً على ورق»، بحسب رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة نوال نصر. «لأنها كانت مشروطة بالحضور 3 أيام أسبوعياً، أي ما يعادل 14 يوماً شهرياً. في حين أن الموظفين كانوا يحضرون يوماً واحداً فقط لتسيير أمور المواطنين، لعجزهم عن تحمل كلفة النقل». وبحسب نصر فان «مجموع ما يتقاضاه موظف الادارة العامة من راتب وبدل نقل، إذا دفع، والمساعدة الاجتماعية، يبقى مقتصراً عن تأمين الوصول إلى مكان العمل لمدة 12 يوماً فقط. ومن يطلب الحضور اليومي من الموظف، كانه يطلب منه البقاء من دون أكل وشرب لتأمين الحضور، من دون أن نقارب حتى مجموع الانفاق على بقية متطلبات الحياة من صحة وتعليم وعيش كريم. أما بخصوص عدم دفع بدل النقل فـ»حجة عدم وجود اعتمادات، جاهزة دائماً» تقول أبي نصر. «في المقابل تفتح الاعتمادات بسحر ساحر لأي نفقة أخرى مهما كانت كبيرة وغير محقة وتنضوي تحت عنوان الهدر».
المطالب المحقة
على الرغم من أهمية موقع الإدارة العامة في بنية القطاع العام، لم تتجاوز حصتها من موازنة 2022 الموجودة في مجلس النواب 612 مليار ليرة كانت تعادل 408 ملايين دولار في ما مضى، أصبحت اليوم 22 مليون دولار فقط. وهي معرضة للانخفاض أكثر مع كل انهيار في سعر الصرف. «فكيف من الممكن أن يكفي هذا المبلغ لتسيير المرفق العام وهو لا يصل للكلفة التي يدفعها السياسيون ممن يخيطون الخطط على زفاف أولادهم»؟ تسأل نصر. «هذا عدا عن أن الظلم الذي يلحق بموظفي الادارة العامة لا يمكن مقارنته مع بقية القطاع العام لا من حيث العدد ولا التقديمات والمساعدات التي يتلقونها. وعليه فاننا مجبرون على الاضراب والتوقف عن العمل ولسنا مخيرين، تضيف. وعلى الرغم من أن المنطق والعدل يقضي بـ «إعادة نسبة الـ 95 في المئة التي فقدناها من رواتبنا. فنحن منفتحون على أي حلول تؤمن المساواة مع غيرنا من شرائح القطاع العام التي تحتسب رواتبهم على أساس 8000 ليرة أو حتى 12 ألف ليرة بعدما تقسم على سعر الصرف القديم. وجرى اعطاؤنا بالتوازي دعماً للصناديق الضامنة لتأمين الطبابة والاستشفاء، وبدل نقل عادل أو قسائم محروقات تراعي مكان سكن الموظف والمسافة التي تفصله عن عمله… عندها يصبح الراتب الذي يترجم على 12 ألف ليرة كافياً لتأمين أبسط متطلبات الحياة ساعتذاك نعلق الاضراب».
ومن المطالب المحقة أيضاً:
– رفع الغبن اللاحق بالمتقاعدين.
– إعادة احتساب المعاش التقاعدي على أساس 100%
– إلغاء ضريبة الدخل عن هذا المعاش عملاً بقرار المجلس الدستوري رقم 13/2017.
– إعادة الدوام الرسمي الى الساعة الثانية من بعد ظهر أيّام الإثنين، الثلثاء، الأربعاء والخميس والساعة الحادية عشرة قبل الظهر من أيّام الجمعة، لأنّ الدوام الحالي أصبح في ظلّ الظروف الراهنة، غير مبرر ومستحيل التطبيق، لناحية تأثيره وعدم مراعاته للحياة العائلية، والاقتصادية أيضاً.
الشروط لعودة العمل إلى طبيعته في الإدارات العامة «ليست مكلفة ولا تتعارض مع مطالب صندوق النقد الدولي وسياسات ترشيق القطاع العام»، بحسب الموظفين. بل هي الحد الادنى المطلوب لقيام الدولة بواجباتها تجاه مواطنيها. وإن كان لا بد للترشيد في الانفاق وتخفيض أعداد الموظفين فعليهم البدء بالقطاعات المتضخمة التي تكاد تنفجر». أما التشفي بحق الادارات العامة وموظفيها فسيؤدي إلى تحلل الدولة كلياً بعدما أمعن فيها الاهتراء.