منذ عامين ووزير المال يُطلق صفارة الإنذار على الوضع المالي العام. لكنّ الغريب في الأمر هو أنّ بعض الوزراء وأثناء خروجهم من جلسة مجلس الوزراء صرّحوا بأنّ الوضع المالي ليس بالكارثي على الرغم من وجود مؤشرات سلبية. فما حقيقة الوضع المالي وهل هو كارثي؟
أرقام المالية العامة تُشير إلى أنه ومنذ العام ٢٠٠٤، يفوق حجم الإنفاق العام مداخيل الموازنة. فعجز الموازنة الذي بلغ ٢ مليار دولار أميركي في العام ٢٠٠٤، إرتفع ليبلغ القمّة – ٤.٢٢ مليارات دولار أميركي – في العام ٢٠١٣، ليعاود الإنخفاض إلى ٣.٩٥ مليارات في الـ ٢٠١٥.
لكنّ أرقام هذا العام تُشير إلى أنّ العجز في الأشهر الثلاثة الأولى بلغ ١.٤٤ مليار دولار أي إذا إستمرّ الإنفاق على الوتيرة نفسها، سيكون حجم العجز ٥.٧٦ مليارات دولار في نهاية هذا العام.
نمو لا يمتصّ العجز
في غياب النموّ الإقتصادي والذي لن يزيد في أحسن الأحوال عن الـ ١.٥٪، سيتحوّل هذا العجز كما في الأعوام السابقة إلى دين عام ومعه يكون مُستوى الدين قد قطع عتبة الـ ٧٦ مليار دولار أميركي.
وما يدفعنا إلى قول هذا الأمر هو العلاقة التي تربط العجز في الموازنة بزيادة الدين العام حيث تُظهر البيانات التاريخية أنه في أعوام النموّ، إستطاع هذا الأخير إمتصاص جزء من العجز وبالتالي لم يشهد الدين العام نموّاً بوتيرة العجز نفسها.
إلّا أن هذه الظاهرة للأسف إنحصرت بشكل وثيق في الأعوام ٢٠٠٦، ٢٠٠٧، ٢٠١٠ و٢٠١١. أضف إلى ذلك الزيادات في الدين العام غير المُبرَّرة إقتصادياً مثلاً الزيادة في العامين ٢٠٠٨ و٢٠٠٩، وفي العام ٢٠١٣.
أما العامان اللذان يعكسان فعلاً واقع العجز فهما العامان ٢٠١٤ و٢٠١٥ كما وأوّل ثلاثة أشهر من العام ٢٠١٦ حيث تُساوي الزيادة في الدين العام قيمة العجز في الموازنة وهذا الأمر طبيعي من ناحية أنّ النمو في الإقتصاد والذي هو أقلّ من ١٪ لا يستطيع إمتصاص هذا العجز والذي يتحوّل تلقائياً إلى دين عام.
الإنضباط المالي
أما في ما يخصّ الميزان الأوّلي، فتُظهر البيانات التاريخية أنّ العام ٢٠١٦ يظهر كأحد الأعوام الكارثية في تاريخ الموازنة. فخلال الأعوام المُمتدّة من ٢٠٠٤ إلى ٢٠١٦، سجّل هذا الميزان عجزاً في العام ٢٠٠٦ (١٧ مليون د.أ)، ٢٠١٢ (١١٠ مليون د.أ)، و٢٠١٣ (٢٤٠ مليون د.أ). لكنّ الفصل الأول من العام ٢٠١٦ سجّل عجزاً في هذا الميزان بقيمة ٤٠١ مليون د.أ وعلى هذا النمط سيكون العجز في نهاية العام الحالي أكثر من ١.٦ مليار د.أ !!
الجدير بالذكر أنّ تحليل الانضباط في المالية العامة عبر القيود على ميزانية الدولة ينصّ على أن يتمّ تمويل النفقات الإجمالية في الميزانية لكلّ سنة مالية من الضرائب أو من الإصدارات لسندات خزينة. ويُمكن وضع هذه القيود ضمن المعادلة الحسابية التالية: الإصدارات الجديدة (أو زيادة الدين العام) + الإيرادات الضريبية = خدمة الدين العام + الإنفاق العام.
وتحليل هذه العلاقة في حالة لبنان يوصلنا إلى أنّ نسبة الدين العام تزيد لأنّ الدولة تُسَجِّلُ عجزاً أوّلياً، أو لأنّ الفجوة بين سعر الفائدة الحقيقي ومعدل النموّ يتزايدان.
وبالتالي لا يُمكن الحديث عن إنضباط في المالية العامة في لبنان ما دام الميزان الأولي لا يُسجّل فائضاً أعلى من قيمة خدمة الدين العام والبالغة ٤ مليارات د.أ. فكيف الحال مع عجز في الميزان الأوّلي؟ هذا يعني أنّ سرعة تنامي الدين العام ستأخذ أبعاداً جديدة في الأعوام المُقبلة.
إنفاقٌ مُفرط
أما في ما يخص الإنفاق، فالملاحظ من مشاريع قوانين الموازنة للأعوام الماضية (٢٠١٣، ٢٠١٤، ٢٠١٥ و٢٠١٦) أنّ الإنفاق الجاري يُشكّل أكثر من ٩٠٪ من قيمة الإنفاق العام وهذا بحدّ ذاته جريمة بحق المال العام.
وبالنظر إلى تفاصيل الإنفاق، نرى أنّ خدمة الدين العام وأجور القطاع العام تساويان مداخيل الدولة، وبالتالي كلّ قرش إضافي هو عجز تُسجّله الموازنة على مثال دعم مؤسسة كهرباء لبنان والبالغ ٢ مليار د.أ، والنفقات الأخرى للوزارات والمؤسسات العامة.
وأرقام الإنفاق في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام تُشير إلى أنّ الإنفاق زاد بنسبة ٢٣.١٪ نسبة إلى الأشهر الثلاثة الأولى من العام ٢٠١٥ مقارنة بزيادة في الإيرادات بنسبة ١٦.٦٪. وهذا يعني أنّ وضع المالية العامة إلى تردٍّ ما دفع بوزير المال علي حسن خليل إلى دقّ ناقوس الخطر.
لا خيار أمام المصارف
في هذا الوقت تستمرّ المصارف اللبنانية بتمويل عجز الدولة ودينها العام وذلك دون أن تكون لها أيّ قدرة على فرض إصلاحات على الدولة اللبنانية من ناحية التوظيف والإنتاجية في القطاع العام كما ومن ناحية لجم الهدر والفساد.
ويعود السبب بالدرجة الأولى إلى أنّ المصارف وخلال العقد الماضي كانت تطمع بالفائدة التي تدفعها الدولة اللبنانية على سندات الخزينة. ووصلت الحال إلى نقطة لم تستطع معها هذه المصارف وقف التمويل بحكم تعرّضها للدين العام اللبناني وبالتالي أصبحت تدفع فاتورة هذا التعرّض من تصنيفها الإئتماني.
الوضع لا يُمكنه أن يستمرّ على ما هو عليه لأنّ المالية العامة دخلت في دوامة كبيرة لن تُخرجها منها الثروة النفطية والغازية الموعودة لأنّ هذه الأخيرة لن تأتي قبل ٧ إلى ١٠ أعوام أقلّه، بل إنّ لجم الإنفاق هو الحلّ الوحيد.
التقشف هو الحلّ
وقد يظنّ البعض أنّ رفع الضرائب قد يُحسّن الوضع المالي، إلّا أنّ هذا الإعتقاد خاطئ والسبب يعود إلى أنّ الضرائب التي تأتي بمردود قيّم هي الضرائب التي تُفرض على النشاط الاقتصادي. وبالتالي ومع غياب النموّ، سيكون مفعول الضرائب عكسيّاً لأنها ستطال قبل كلّ شيء الضريبة على القيمة المُضافة أي الإستهلاك. أما إذا كانت الضرائب ستطال الأملاك البحرية والنهرية وتسوية المُخالفات في البناء (والتي نستبعدها نظراً لقرب الانتخابات النيابية)، فإنّ الوضع يكون مُختلفاً.
وبالتالي يكمن الحلّ في لجم الإنفاق ومحاربة الفساد وتحسين جباية الضرائب والفواتير. فمثلاً للذكر، تتخطّى قيمة الضرائب والفواتير غير المُجباة الـ ٥ مليارات دولار أميركي أي ما يوازي ١٠٪ من الناتج المحلّي الإجمالي وأكثر من خدمة الدين العام. وتتخطّى قيمة الأموال التي تستحق لخزينة الدولة والتي لا يعود منها للخزينة شيء بسبب الفساد ما يفوق الـ ٤ مليارات دولار أميركي!
أما على صعيد الإيرادات فنرى أنّ الإيرادات إلى تراجع مُستمرّ مع نموٍّ إقتصادي يوازي الصفر وتراجع العائدات الجمركية (إتفاقية الجمارك مع الإتحاد الأوروبي وإتفاقية التيسير التجاري مع الدول العربية).
وبالتالي وبغياب خطة إقتصادية لتحفيز النموّ، لن يكون هناك من أمل في زيادة مداخيل الدول إلّا عبر إصدار السندات. الجدير بالذكر أنه وخلال عشرة أعوام من الصرف على أساس القاعدة الإثنَي عشريّة، إرتفع الدين العام من ٣٨ مليار د.أ في العام ٢٠٠٥ إلى ٧١ مليار د.أ في العام ٢٠١٥. وبالتالي لا يُمكن وقف نزف المالية العامة إلّا عبر موازنة تقشّفية تسمح بلجم الإنفاق الجاري والهدر والفساد.