أسياد الطرقات باتوا على قارعتها
خبزهم على الطريق ومعيشة أولادهم من كيلومترات جاحدة يزرعونها يومياً جيئة وذهاباً، لا تقدم لهم أكثر من بضعة ألوف يكدسونها على مرّ الركاب وتكاد لا تكوّن قطعة ورقية كبيرة. سياراتهم العتيقة هي الرئة التي منها يتنفسون والبنزين الأوكسجين الذي يبقي في عروقهم نبضاً، متى شحّ اختنقوا وتهدّد رزقهم وحياتهم ومعيشة عائلاتهم.
السائقون العموميون في لبنان اليوم يختنقون، مثل مرضى السرطان، يُحجب عنهم دواؤهم السائل وما من مستجيب لاستغاثاتهم. معاناتهم أكثر من انتظار على محطة هي صراع بين العيش الكريم والذل والاستجداء…
“صرلنا شهر مش آكلين جبنة وعم نطبخ نص طبخة” صرخة من قلب محروق يطلقها أحد السائقين العموميين وهو ينتظر في الطابور أمام إحدى المحطات في ساعات الصباح الأولى. أمضى ليله في سيارته منتظراً أن يصل دوره، هو لا يحب “المشاوير” كما قالت إحداهن (مديرة منشآت النفط أورور فغالي)، ولا يود ّ أن يذهب كزدورة الى البترون او يصطحب اطفاله الى الشاطئ وحتماً لا ينتظر أن يُفرغ خزان سيارته من البنزين حتى يبيعه غالونات في السوق السوداء. “عيلتي ما معها تاكل، بدي عبي بنزين لناكل”.
معاناة حتى التخمة
ليس من هواة الذل ولا هو قادر على البحث عن ترف السوق السوداء… ليعيش عليه ان يعمل بين 12 و 16 ساعة في اليوم وأن ينتظر الوقت ذاته أمام المحطة. بين جحيم الطرقات الملتهبة المكتظة بعجقة السيارات وندرة الركاب الذين باتوا يخشون تسعيرة السرفيس، بالكاد يستطيع ان يؤمن وجبة واحدة في اليوم يقولها لنا صراحة، لكنه مضطر ان يستمر في الدوران وسط الدوامة الخانقة فالتوقف يعني الحاجة والاستعطاء والفقر والموت. “بعضهم ينام في سيارته يروي لنا أحد السائقين ومعظهم غير قادر على تأمين إيجار منزله او إدخال أولاده الى المدارس.أحدهم اضطر الى التوجه الى منظمة كاريتاس لطلب العون بعد ان طلب منه المستشفى 19 مليون ليرة كفرق الضمان حين أنجبت زوجته مولودها”.
كفاح يومي
هي نماذج صارخة عن كل السائقين العموميين الغارقين في المعاناة حتى التخمة. معظمهم صاروا في منتصف العمر أو على المقلب الآخر، في تلك المرحلة التي يفترض فيها أن يرتاح الإنسان ويتنعم بما جناه في عمره، لكن السائقين في لبنان لا يعرفون الاستراحة وكفاحهم اليومي لا يستكين. التقاعد الذي عولوا عليه ليكون سنداً لهم بعد سنوات الشقاء تلاشى ولم تعد له قيمة تذكر والطبابة التي هم في أمس الحاجة إليها صارت “لوكس” لا يجدون إليه سبيلاً بعد ان استقر سعر تسديد الضمان الاجتماعي لمستحقات المستشفيات على سعر 1500 ليرة للدولار فيما المستشفيات تطالب السائقين بفرق الضمان على تسعيرة 3900. أمنهم الغذائي والصحي والاجتماعي صار معدوماً. هم أسياد الطرقات صاروا على قارعتها…
“قطاع النقل يمر بأصعب المراحل منذ تأسيس الدولة اللبنانية” يقول مروان فياض رئيس النقابة العامة لسائقي السيارات العمومية، فبين ارتفاع سعر المحروقات وشحّها الحاد وغلاء أسعار قطع الغيار يعيش السائقون معاناة حقيقية. منذ ثلاثة أشهر رفعنا الصوت وطلبنا من رئيس الحكومة والوزراء المختصين ألا يرفعوا الدعم من دون إقرار خطة متكاملة لدعم السائقين، وقد تقدمنا بخطة تقضي بتأمين 20 صفيحة من البنزين شهرياً لكل سائق على السعر المدعوم مع مبلغ 500000 ليرة شهرياً كفرق قطع الغيار وبهذا يمكن اعتماد تسعيرة نقل للسرفيس تقارب 6000 ليرة. لكن الحكومة رفعت الدعم على مراحل وأهملت الخطة المطروحة.
وكان رئيس اتحاد نقابات النقل البري بسام طليس قد طلب في مؤتمر صحافي من “السائقين العموميين التحمل أسبوعاً إضافياً ( انتهت المهلة أمس)، قائلاً: سنعطي فرصة للرئيس دياب والوزراء المعنيين، لتنفيذ الاتفاق والايعاز الى الوزارات والادارات المعنية البدء بالتدقيق في خلال هذا الاسبوع لدعم قطاع النقل البري، بغض النظر عن موضوع البطاقة التمويلية، لان السائقين العموميين هم جزء من المستفيدين منها، وإلا بقيت السوق السوداء على صعيد النقل، وإن لم يتم البدء بتنفيذ الاتفاق، فانني اتوجه الى وزير الاشغال العامة والنقل ميشال نجار من أننا سنصدر تعرفة جديدة تصل الى 25 الف ليرة ولتتحمل الحكومة مسؤولية ما سوف يجري على الناس وستكون الدولة هي المسؤولة عن ذل شعبها واهانته”.
بين الركاب والسائقين الهمّ مشترك
مديرية النقل البري لم تصدر بعد تعرفة رسمية جديدة لتسعيرة السرفيس او الفان والباص ولا تزال تعتمد تسعيرة 6000 ليرة التي أطلقتها في شهر تموز على أساس أن يرافقها دعم للسائقين وفق ما يشرحه لنا عبد شري نائب رئيس مالكي وسائقي السيارات العمومية في المتن الشمالي. واليوم بعد وصول سعر البنزين الى أرقام خيالية مع اعتماد دولار بسعر 8000 لم يعد السائقون قادرين على الالتزام بالتعرفة المطروحة وصارت الفوضى في التسعير هي السائدة وكل سائق يعتمد على تقديره الخاص، فمن اشترى صفيحة البنزين في السوق السوداء بسعر يفوق 350000 لا بد أن يرفع تسعيرته الى 15 او 20 الف ليرة وحتى الباصات ارتفعت تعرفتها وبلغت 10000 ليرة وهذا عبء جديد يضاف الى لائحة أعباء المواطن اللبناني الفقير الذي كان يجد في النقل العام سبيله الوحيد للتنقل. أما التاكسيات فتلك قصة أخرى حيث تفلتت تعرفتها من دون اي رادع بحيث وصلت تسعيرة أحدها من المطار الى جونية 500000 والى طرابلس 3 ملايين ليرة في أرقام جنونية فرضتها حاجة الناس.
يسأل فياض “هل يستطيع المواطنون تحمل هذه التكلفة”؟ بالطبع لا، يجيب ولا السائقون قادرون على إيجاد التوازن المطلوب بين مصلحتهم ومصلحة المواطن. سيارات النقل العمومية كما الباصات قليلة على الطرقات لأن كثراً من السائقين فضلوا المكوث في بيوتهم على الانتظار لأيام وليال أمام المحطات، والركاب في المقابل عددهم قليل والعديد منهم باتوا يفضلون السير على القدمين بدل أخذ سرفيس لا يستطيعون تحمل تكلفته”. منطقة الدورة التي يراها فياض من نافذة مكتبه تبدو فارغة “وكأننا في أيام الحرب” يقول ويضيف “لقد كان رفع بدل النقل الى 24000 للقطاع العام خطوة إيجابية وتسعى الهيئات الاقتصادية الى رفعه كذلك في القطاع الخاص وهو أمر يمكن ان يساعد في حلحلة أزمة النقل”. في الانتظار لا تسعيرة جديدة يؤكد فياض بعد مشاورات أجراها مع مدير عام النقل الذي وعد ببتّ الأمر في الأسبوع المقبل. ولكن حتى يبت بالتسعيرة يبقى الأمر متروكاً للسائقين وضميرهم. الركاب يشعرون مع السائقين من تلقاء أنفسهم فهمومهم مشتركة، يدفعون التسعيرة التي يرونها عادلة ويتحسسون وضع السائق الذي يمضي نصف نهاره أو ليله في انتظار الحصول على صفيحة بنزين تتلف أعصابه وينهك جسمه وبالكاد يبقى قادراً على العمل ليؤمن طعام عائلته. تضامن الناس معه هو ما ينقذ السائق في هذه الأيام في حين أن الدولة غائبة لا تقدم له الدعم المطلوب ليستمر والنقابات في وضع مالي سيئ لا تستطيع معه تقديم اية مساعدة لمن يحتاج من السائقين.
وليس البنزين وحده معاناة السائق بل ان الأقسى هو صيانة السيارة التي يجب ان يدفع كلفتها بالدولار، من الزيت الى الدواليب فالفرامل وسواها من قطع الغيار وان يسدد أجرة يد صاحب الكاراج الذي رفع أسعاره ما يجعل السائق يعيش كابوس الأعطال والصيانة التي تحول شغله خسارة بخسارة.
أين خطة النقل العام؟
والى جانب كل هذا يقول شري عادت الى الواجهة مشكلة قديمة جديدة هي مشكلة السيارات الخصوصية التي تزاحم السائقين العموميين على مورد رزقهم وتنافسهم بالأسعار لا سيما وان معظم أصحابها لديهم عمل آخر ويمارسون شغلة “تطليع الركاب” في طريقهم. هؤلاء يجب على القوى الأمنية ان تكافحهم يقول شري لأنهم يعملون بشكل غير شرعي ولكنه في الوقت ذاته يتفهم حاجة الناس الى اي مدخول إضافي يمكنهم تأمينه.
معاناة السائقين يمكن ان تخفف منها بعض الخطوات البسيطة يقول شري كأن تخصص لهم محطات معينة او ان تخصص عينة في كل محطة للسيارات العمومية في انتظار ان تقر خطة أكبر لدعمهم. اما الحل الأمثل فيبقى بإقرار الخطة الموضوعة للنقل المشترك التي يتم تأجيلها من حكومة الى أخرى فهذه الخطة متى أقرت تريح كل المواطنين وتحل 50% من أزمة النقل في لبنان وتساعد على التخفيف من استهلاك البنزين في السوق المحلي.
ولكن إذا كانت تسعيرة السرفيس والباصات لا تزال مضبوطة الى حدٍ ما فإن مكاتب التاكسي الخاصة التي لا تنتمي الى نقابة النقل العام قد تفلتت أسعارها الى حد كبير وباتت ترتكز على ” ذوق” اصحاب المكاتب بعد ان كانت مصلحة النقل هي التي تضع التسعيرة وتترك للمكاتب هامشاً للمنافسة والمضاربة. أحد أصحاب هذه المكاتب يرفض رفضاً قاطعاً القول أن المكاتب تتحكم بالأسعار على ذوقها وتطلب أسعاراً خيالية ويؤكد لـ”نداء الوطن” انهم كأصحاب مكاتب اضطروا لرفع الأسعار بنسب مقبولة وذلك للموازنة بين احتياجات السائق والزبون ولا يمكنهم رفع الأسعار بشكل كبير كي لا يفقدوا زبائنهم الذين تراجعت أعدادهم بشكل واضح مع ارتفاع كلفة التاكسي. “مكاتب التاكسي لها إدارة مسؤولة ومرجعية وهي تعطي التسعيرة للزبون حين يطلب سيارة فإما يرضى بها او يمتنع عن الطلب. نحن لا نتعامل بالسوق السوداء وكل سائق منتسب الى المكتب مجبر ان يتبع تسعيرة المكتب. هذا السائق لا راتب ثابت له ليس موظفاً بل يعتمد على الطلبات التي يؤمنها له المكتب خلال اليوم فإذا اشتغل حصّل يومه وإن لم يشتغل كان الله في عونه”.
قد يستغل بعض السائقين العموميين أزمة البنزين الحالية على الطريقة اللبنانية ليطلبوا أسعاراً ترهق المواطن ولكن هؤلاء يبقون قلة في بحر الانسحاق الذي يغرق فيه من يعملون من “الفجر الى النجر” لتأمين خبزهم كفاف يومهم.