الطبيب، أي طبيب، عندما يكون أمام حالة طارئة، يسلك مساراً منطقياً وفق أسس علمية لا عاطفية أو انفعالية: يشخّص الحالة، ويحدّد خطوات الاحتواء، ويدخل المريض غرفة العمليات. مسار علمي بسيط كهذا يبدو مستحيلاً لمن يتولون القيادة السياسية، ولو في قضايا بسيطة جداً، ولمجرد رفع العتب، كقانون استقلالية القضاء أو الصندوق الائتماني أو رفع السرية المصرفية أو الكابيتال كونترول. بدلاً من ذلك، تتلطى غالبية الأفرقاء السياسيين وراء الفراغ الرئاسي لطي صفحة التشريع رغم كل ما يقتضيه الانهيار الشامل من ضرورات. وإذا كان مطلوباً من مجلس النواب أداء مختلف للمضي قدماً في الاتفاق مع صندوق النقد ووقف الانهيار المالي المتسارع، فإن ما يحدث في الإدارة العامة يظهر أن الانهيار يشهد تطورات دراماتيكيّة مع هجرة عدد كبير من موظفي القطاع العام وانشغال آخرين بوظائف جانبية باتت بالنسبة لهم أهم بكثير من «وظيفة الدولة»، وهو ما لم يحدث في لبنان سابقاً، ولم يُسجّل في تجارب دول عديدة شهدت انهيارات اقتصادية. تستسلم الادارات واحدة تلو أخرى، وحتى لو تأمن المال المستحيل، فإن على وزارات ضخمة كالتربية والأشغال والصحة والمالية والداخلية أن تبدأ من دون الصفر بكثير، بلا موظفين من ذوي الخبرة والقدرة والمعرفة.
في الداخلية، مثلاً، يسيّر المدير العام للأحوال الشخصية الجنرال الياس الخوري المرفق العام الضخم بالحد الأدنى من الموظفين الملتزمين بيوم عمل واحد أسبوعياً. إلا أن هذا الالتزام الأخلاقي سيتراجع مع الوقت، ولن يجد المواطنون لاحقاً من يسجل وثائق الزواج والولادة أو يشطب الوفيات عن القيود الرسمية. في المالية لا حاجة للتوقعات، إذ إن المصيبة قد حلّت بالفعل: كل معاملات شراء العقارات وبيعها ونقلها متوقفة تماماً بسبب تعطل الدوائر العقارية التي تمثل أحد أهم مصادر الدخل الضريبي. والأمر نفسه ينطبق على كل ما له علاقة برسوم الانتقال وضريبة الأملاك المبنية وضريبة الأرباح وغيرها. وفي العدلية تراكم فوق تراكم فوق التراكم التقليدي للملفات حيث لا يجد القضاة – حين تبلغ الضغوطات ذروتها للبت في ملف – الملف الذي يفترض البت فيه. وحتى في حال استعادت الدولة هيبتها الوظيفية، فإن العدد الأكبر من الموظفين الأساسيين هاجروا أو بدأوا أعمالاً جديدة، ولم يعد ممكناً إقناعهم أو إقناع أبنائهم بوظيفة الدولة المتوارثة كتوارث الوظائف الحقوقية والصحية والهندسية والسياسية. أما من لا يزالون صامدين في وظائف القطاع العام حتى اليوم، فلم يبدأوا بعد بعرض أثاثات مكاتبهم وتجهيزاتها للبيع كما تفعل بعض البلديات غير الساحلية التي تبيع آلياتها لتتمكن من الاستمرار في منح موظفيها رواتبهم وتقديم الحد الأدنى من الخدمات.
وليست المؤسسات الأمنية أفضل حالاً. إذ لم تعد الخدمة الرسمية، لكثيرين من الضباط والعناصر في مختلف الأسلاك، أكثر من استراحة صغيرة للنوم بين وظائفهم الأساسية الجديدة كمدربين في النوادي الرياضية أو نُدُل في المطاعم أو حرس في المنتجعات والمجمعات السكنية والمصارف والشركات المالية أو سائقي سيارات أجرة و«توكتوك» أو صرافين غير شرعيين أو عمال صيانة ودهان وسنكرية و«معلمي طاقة شمسية» أو مراقبين في المسابح الخاصة. لا حماسة ولا دافع للبقاء في الوظيفة الرسمية حتى بعد السماح لهم بممارسة وظيفة ثانية وثالثة، والتساهل في الدوامات، ومحاولة إيجاد نقاط عمل قريبة من أماكن السكن، في ظل شعور كثيرين أن البذلة التي كانت تمنحهم شعوراً بالتفوق، باتت اليوم تفضح بؤس أجورهم. أضف إلى ذلك، ضعف إمكانات المخافر أساساً، حيث توقفت غالبية الآليات عن العمل لعدم وجود أموال للصيانة، وهو ما يؤدي إلى مشهد أمنيّ غمزت الأجهزة المختلفة بعضها البعض للتستر عليه، عبر تفادي نشر الأحداث الأمنية اليومية والاكتفاء بدلاً من ذلك بذكر الإنجازات المتمثلة بإيقاف لص هنا أو مروّج مخدرات صغير هناك. وطال التقشف الأمني شبكات المخبرين، ما يعطل قدرات الأجهزة التي تواصل تسديد مستحقات شهرية لـ«إعلاميي الأجهزة» وتزويدهم ببونات البنزين، خصوصاً أن «مخصصات القائد» السرية في كل جهاز لم تتأثر بالأزمة، بل تضاعفت مع تحول بعض «القادة» إلى العمل العلني في قطاع الكسارات والمرامل والزفت والتعهدات. وإذا كان قائد الجيش السابق جان قهوجي قد سجل أرقاماً قياسية لجهة الشقق التي تملّكها وأسرته خلال ولايته، فيما ذاع صيت عرس نجل اللواء عماد عثمان، فإن ذلك كله حصل قبل أن تشرع المؤسسات الأمنية لنفسها الحق بممارسة وظيفة ثانية وثالثة ورابعة. وهو ما يقود إلى القول إن حسابات مالية وإعلامية وسياسية وسياحية تحول دون الكشف اليوم عن حقيقة المشهد الأمنيّ. لكن الوقائع تقول إن تلبية المخافر للاتصالات الطارئة لا تتجاوز واحداً في المئة لغياب القدرات والعناصر والمعنويات اللازمة لتحرك هؤلاء العناصر الذين لا يفتحون محضراً إلا بعد وقوع جريمة القتل. وبدوره، انتقل «التشبيح» من بعض المناطق الحدودية إلى قلب العاصمة، ولم يعد يمكن سلوك بعض الطرقات الشمالية الحيوية بعد مغيب الشمس بسبب الكمائن الطيارة لعصابات السلب. أما الفضيحة الأكبر فهي تسليم الحكومة اللبنانية مفاتيح الأمن كاملة لسفير يمكنه ساعة تشاء إدارته أن يوقف دفع الرواتب لعناصر وضباط هذه المؤسسات.
يحتفل البلد بمغتربيه هذه الأيام ويخيل للبعض أنه قد يكون ثمة أمل ما بالخروج من هذه الأزمة كلها عبر كبسة زر مشابهة لكل ما شهدناه سابقاً. لكن الواقع مختلف تماماً: تجاوز الانهيار مبدأ الانهيارات المالية المعروفة التي تصاحبها غالباً هجرة أطباء ومهندسين وأساتذة وممرضين وتراجع قطاعات مقابل صعود أخرى؛ فقد انهارت قطاعات من دون أي تقدم في قطاعات أخرى، ومع نجاح القطاع الخاص في تدبير أموره، لم يبقَ شيء يذكر من القطاع العام الذي لا يمكن التفكير بنهوض اقتصاديّ من دونه. ولم يعد الحديث هنا عن التعليم الرسمي والنقل الرسمي والاستشفاء الحكوميّ، إنما عن الأمن والدوائر الضريبية والنفوس وكل ما له علاقة بالأساسيات؛ وكأن قطاعات النقل والتعليم والاستشفاء باتت من الكماليات لكثيرين.
تجاوزت الصورة وصف «السوداوية» الإنشائيّ؛ مَن تنقل بين مهرجانات الذوق وعمشيت وجونية في الأسابيع القليلة الماضية أمكنه رؤية قلة قليلة يمكنها شراء كل ما تشتهيه فيما عائلات أخرى تقف لتتناقش في ما إذا كانت ستشتري «ساندويش» شاورما واحد أو منقوشتين أو تكتفي بالنزهة «حاف». انهيار لم يحاول أحد، باستثناء حكومة الرئيس حسان دياب، منذ عام 1992 وضع العصي في دواليبه. انهيار يتزامن مع أزمة سياسية غير مسبوقة هي الأخرى يبيح السياسيون لأنفسهم فيها كل المحظورات.