نجح صُنّاع القرار في لبنان، في تفتيت القطاع العام وتحويله إلى قطاعات مفكّكة بتقديمات متفاوتة. فبنتيجة قرارات تصحيح الأجور الترقيعية، لا يوجد اليوم، موظفون من الرتبة نفسها والدرجة نفسها في وزارتين مختلفتين يتقاضون الراتب ذاته. وهذا تحديداً ما حصل بإقرار مرسوم الزيادات أول من أمس، إذ ضربت وحدة المعايير والشمولية القطاع العام بعدما استُثني قطاعا التعليم والقضاة من أيّ زيادة بشكل تام، وعومل المتقاعدون بشكل ناقص فيما أُغدقت التقديمات على موظفي ومتعاقدي الإدارة العامة والمؤسسات والمصالح المستقلة. بالنتيجة صُحّحت جزئياً أجور 46% من العاملين في القطاع العام فقط، فيما عاد القطاع إلى التسعينيات حين كانت الرواتب تختلف بين وزارة وأخرى.
لا مجال لفهم الزيادات الانتقائية التي أقرّتها الحكومة أول من أمس، إلا كخطوة إضافية في مسار تصفية القطاع العام. ففيما حُرم نحو 18 ألف أستاذ و700 قاضٍ من تقديمات إضافية على رواتبهم، ومُنح المتقاعدون تعويضات هزيلة، أُغدقت التقديمات الإضافية التي لا تُحتسب في المعاش التقاعدي على 42 ألفاً من موظفي ومتعاقدي الإدارة العامة والمؤسسات والمصالح المستقلة. إقرار المرسوم جاء من خلال مفاوضات قوامها التمييز بين العاملين في القطاع العام، والاقتراض من أجل تحسين أوضاع بعضهم على حساب آخرين. أصلاً لا يمكن التعويل على وجود نقابات أو مصالح نقابية تفاوض من أجل تصحيح فعلي بعدما أصبحت النقابات في قبضة السلطة منذ زمن طويل.
فعلى سبيل المثال، فإنه بدلاً من تعديل الرواتب، أقرّت الحكومة خطة في مطلع العام الدراسي الحالي من إعداد وزير التربية عباس الحلبي، تقضي بتمويل «حوافز» لأفراد الهيئة التعليمية بقيمة 300 دولار شهرياً لأساتذة الأساسي والثانوي، و650 دولاراً لأساتذة الجامعة اللبنانية. بالتوازي، تفاقمت النقمة في قطاعات الوظيفة العامة الأخرى. تلا ذلك، اقتراض الحكومة من البنك الدولي مبلغ 34 مليون دولار من أجل تمويل حوافز جديدة لموظفي وزارة المالية وهو ما فجّر تحرّكات المتقاعدين العسكريين التي استُغلت سياسياً من الفئات العليا. وفي المحصّلة، فإنه بمجرّد انتهاء خدمات الموظف، سيخسر 60% من التقديمات الإضافية التي مُنحت قبل يومين بموجب المرسوم 13020، فيعود راتبه إلى ما كان عليه قبل أيّ زيادة لاحتساب تعويضات نهاية الخدمة. وهكذا، بات لدينا موظفون بسمنة وآخرون بزيت. فعلى سبيل المثال، إن أستاذ التعليم الثانوي في الفئة الثالثة إدارياً، يتقاضى 7 رواتب قيمتها 18 مليوناً، زائد 300 دولار كحوافز شهرية من وزارته، لتصبح مجمل التقديمات نحو 500 دولار، علماً أنّ الحوافز الإضافية يتوقّف صرفها في نهاية العام الدراسي. أما في الإدارة العامة، وبموجب مرسوم الزيادة الأخير، فيتقاضى الموظف من الفئة ذاتها 9 رواتب بقيمة 27 مليوناً، و18 مليوناً ثمن 12 صفيحة بنزين، و9 ملايين بدل نقل لتصبح مجمل التقديمات 54 مليوناً، حوالي 600 دولار، على أن يضاف إليها في وقت لاحق «بدل المثابرة»، ما يرفعها إلى أكثر من 700 دولار.
«الإضرابات لن تجدي نفعاً» بحسب الوزير السابق شربل نحاس. يرى أن منطق السلطة يعتمد على مسار «اضرب ما شئت، وفتّش عن عمل آخر». سلوك الحكومة، واضح تجاه تجاهل نسبة الشغور التي وصلت إلى 71% في الإدارات العامة بحسب تقارير مجلس الخدمة المدنية. بالعكس، فإن «وجود إدارة بالمعنى الحقيقي من قضاة وعسكر وأساتذة يشكل عائقاً للحكومة» يقول نحاس، إذ إن الإدارة «تُلزم السلطة التنفيذية بوضع موازنة حقيقية، وإدارة الخدمات العامة». لكن، بسبب غياب التمويل، تحوّلت الوظيفة العامة من مجال للتنفيعات إلى عبء على السلطة السياسية، بحسب نحاس. لذا، يرى أن «مسار تصفية الأجهزة الإدارية والمؤسسات الموروثة من العقود الماضية، ما زال مستمراً، ولا يمكن إدراج مرسوم التقديمات والتعويضات المؤقتة التي أُقرّت أول من أمس إلا في سياق تنظيم التصفية التدريجية، إذ تراضي السلطة مكامن القوّة لدى الموظفين بالتقديمات، وفي المقابل تعمل على حثّ الأضعف منهم على الرحيل بحجب التقديمات عنه، كما جرى في قطاع التعليم».
التصحيح الأخير يطاول 46% من العاملين في القطاع العام فقط
عملياً، تواصل السلطة الترقيع في الوزارات أمام أعين الأجهزة الرقابية مثل التفتيش، وبعلم الحكومة والوزراء وإشرافهم. فمنذ سنتين، وبعد تهاوي القوّة الشرائية للرواتب، درجت موضة توزيع البدلات الإضافية على المحظيين من الموظفين في عدد من الوزارات تحت عنوان «تسيير المرفق العام»، وهذه البدلات تأتي من خارج أي قنوات رسمية، ما يعني استمرارها إلى جانب الزيادات الأخيرة. عامةً، لم تسلم أيّ من الوزارات من هذه الآفة، وأصبحت قوة الوزير تقاس بمقدرته على استقطاب مشاريع أجنبية ومموّلين لوزارته. في وزارة التربية مثلاً اهتم البنك الدولي واليونيسف بالأمر، حيث يتهافت الأساتذة على تقديم طلبات الانتقال للعمل في الوزارة للحصول على ساعات عمل إضافية مع الجمعيات الأجنبية. في وزارة الصحة تكفّل عدد من كبار مستوردي الأدوية في لبنان بتأمين مبلغ شهري (200 دولار) يُدفع عبر مكتب الوزير لعدد من الموظفين لضمان حضورهم إلى المكاتب، ومتابعة المعاملات الرسمية التي تصيب الشركات في مقتل في حال توقّفها.