عشوائية واستنسابية وترقيع… هرباً من الحلول الجذرية
هل ستكون المراسيم التي وقعها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لدفع تعويض إنتاجية لموظفي الادارات العامة وزيادة بدلات النقل، بابا لعودتهم عن الاضراب؟ سواء أكان الجواب سلبياً ام إيجابياً، ذلك لا يلغي النقاش حول المعايير التي يجب أن تحكم اي زيادة للأجور، وهل يمكن ان تطبق في المرحلة الحالية؟
ليس من المبالغة القول إن النزاع القائم بين الحكومة وموظفي القطاع العام الذين يُنفذون إضراباً عاماً منذ 13 حزيران الماضي، يدور في حلقة مفرغة، بسبب محاولة الطرفين حل مشكلة تصحيح الأجور والتغلب على التضخم، كلٌ من منظوره وبما يناسبه ، من دون التنبه الى تداعيات الحلول الترقيعية التي يطرحها الجانبان سواء على الوضع المالي والنقدي المهترئ أصلاً ( وهذا ما يُسجل على الموظفين)، أو من خلال تجاهل السلطة تنفيذ حلول جذرية وعلاج الأزمة المالية وإقرار خطة التعافي منذ ما يقارب الثلاث سنوات. فكان أن وقع الجميع في المحظور لجهة إظهار المزيد من عجز السلطة والإنحلال في مؤسسات الدولة. فمنذ ما يقارب الشهرين لم تُسجل (رسمياً) ولادة أي طفل لبناني جديد، ولم يتوفَ أي مواطن في سجلات الإدارة اللبنانية ودوائر النفوس، ولم يحصل أي عقد زواج، ولم يُثبت أي طلاق، لم تُسجل أي عملية بيع أو شراء أو نقل ملكية أو حصر إرث، فيما الاستيراد والتصدير من وإلى البلاد شبه متعثر أيضا.
هذا الكباش المستمر لا ينفي أن نقاشاً جدياً يجب أن يحصل حول كلفة العيش بالحد الادنى من مقومات الحياة الكريمة لأي عائلة لبنانية، في ظل الإرتفاع المستمر في سعر دولار السوق السوداء وتداعياته على أسعار السلع والخدمات، وفي ظل تمسك الحكومة بموقفها القائل إنها قامت «بكل ما تستطيع وبما هو متاح من واردات حاليا، في انتظار إقرار الموازنة للعام 2022، والتي سيرتفع معها حجم الواردات إلى الخزينة «. وصل منسوب المواجهة بين الطرفين إلى أعلى مستوياته، من خلال تلويح الحكومة بإجراءات تأديبية بحق الموظفين إذا لم يحضروا أقلّه ثلاثة أيام أسبوعياً، أو بفصلهم واعتبارهم مستقيلين من الوظيفة في حال استمر تغيّبهم عن العمل لمدّة 15 يوماً متتالية.
رفع الأجور لن ينفع
يفتح الخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي النقاش حول تصحيح الأجور والمعايير العادلة التي يجب أن تُتبع، من زاوية معالجة المشكلة الأساسية التي تسببت بتدني قيمة الاجور بالليرة اللبنانية ، شارحاً لـ»نداء الوطن» أن «مطالبة القطاع العام بزيادة الرواتب ليست في مكانها. ولو كان مسؤولاً عن التحركات والاضرابات التي يقودها القطاع العام بوجه السلطة السياسية لكان مطلبه ليس تصحيح الأجور بل إسترجاع ودائع اللبنانيين من المصارف. والتحقيق في كيفية إختفائها وتحويلها إلى المصرف المركزي الذي يستخدمها بشكل مشبوه». مشدداً على أن «كل هذه المعطيات المهمة يتم القفز فوقها. علماً أن أزمة لبنان ليست أزمة طبع عملة أو أجور بالليرة اللبنانية، لأنه مهما رفعنا الرواتب والاجور فهذا الامر لا ينفع لأن أزمتنا هي أزمة إحتياطيات وطنية من العملات الاجنبية. لأن حاكم المصرف المركزي قام بدولرة إقتصادنا وكانت إحتياطياتنا المالية مكونة من العملات الاجنبية وعلى رأسها الدولار الاميركي».
يضيف:»هذا الدولار كان متواجداً بوفرة في المصارف كودائع من الناس وقد أودعت نسبة عالية منه في المصرف المركزي، أو أكتتبت مباشرة بسندات دين عامة صادرة عن الخزينة اللبنانية. وأكبر برهان أن هذه الاموال لم تعد موجودة هو كيفية تعامل المصارف مع زبائنها، وكيف أن تعاميم حاكم المركزي مبنية على هضم حقوق المودعين المالية كاملة».
إعادة تكوين الإحتياطي بالدولار
يؤكد يشوعي أن «الهدف والمطالبة يجب أن تكون في إعادة تكوين الإحتياطيات الوطنية بالعملة الاجنبية، وهي منهوبة حالياً، وهي أساس المشكلة ولا أحد يقاربها. لأن المطالبة بزيادة الأجور وفقاً للوضع الحالي تعني زيادة في التضخم سيسبق تصحيح الاجور إذا تم»، مرجحاً أن «لا يلقى هذا المطلب آذاناً صاغية من الطبقة السياسية الحاكمة لكن هذا هو لب المشكلة، وعلينا أن لا نكف عن ذلك. وللأسف أشعر بأن أصحاب الحقوق راضون بتعاميم السرقة التي تدفعها المصارف وتتمكن عبرها من التخلص من التزاماتها بأبخس الاثمان».
لا رهان على المؤتمرات الخارجية
ويشرح يشوعي أن «زيادة الرواتب وعبرها زيادة حجم الكتلة النقدية في السوق لن تؤدي إلى تعزيز الاحتياطيات بالعملة الاجنبية. ولا يمكن الرهان على مؤتمرات دولية لمساعدة لبنان في هذا الامر لأن المجتمع الدولي مشغول بأمنه الغذائي والطاقوي وأحوال الحرب الروسية – الاوكرانية «.
لا رقم محدداً للحد الأدنى للأجور
ويرى أن «كل هذه التفاصيل تصب في الجواب على السؤال التالي: كم يجب أن يبلغ الحد الأدنى للأجور لتتمكن عائلة لبنانية من العيش بكرامة؟ الجواب هو «غير محدد». لأن الليرة اللبنانية غير مستقرة بسبب تناقص الاحتياطيات بالعملة الاجنبية واختفاء أموال المودعين وهذا هو جوهر المشكلة. وسيزداد عدم استقرارها مع إزدياد العملة النقدية بالليرة اللبنانية، وأنصح المطالبين بزيادة الأجور بالتصويب على هذا الهدف وليس على مطالب جانبية».الترقيع سيزيد الأمور تعقيداً
يشاطر رئيس جمعية حماية المستهلك الدكتور زهير برو وجهة النظر القائلة بأن الحل ليس بزيادة الاجور، ويلفت لـ»نداء الوطن» أن أي حل جزئي أمام حجم الإنهيار الحاصل لن يوصل إلى أي مكان بل سيزيد الامور تعقيداً. وعملية الترقيع التي تدأب أحزاب السلطة على انتهاجها في كل مرحلة لم تحل أي مشكلة تطرأ على الواقع الاقتصادي اللبناني».
ويرى أن «ما يلزم لبنان في هذه المرحلة هو إعادة نظر في نظامه السياسي والاقتصادي. وكل الحلول الجزئية التي يعتمدها أصحاب القرار حالياً سواء في ما يتعلق بالاسعار أو الدعم او الخبز والمحروقات وإعطاء بعض الامتيازات لبعض الفئات والموظفين (قضاة وعسكريون) هي فشل يضاف إلى فشل»، شارحاً أن «الحد الادنى للأجور كان قبل الازمة 450 دولاراً ويمكن احتسابه على دولار السوق السوداء بـ 13.5 مليون ليرة كي تتمكن العائلات الصغيرة من العيش بالحد الادنى. وقبل الازمة كانت العائلة اللبنانية
تحتاج إلى مليوني ليرة لتأمين الحد الادنى من حاجاتها أي نحو 1300 دولار، فهل يمكن توفير هذا المبلغ من قبل الدولة حاليا؟ مستحيل! إذاً أي تصحيح للأجور سيكون أقل بأضعاف ما يحتاجه اللبناني لتأمين حاجاته الاساسية».
ويختم: «لا يمكن لهذه الطبقة السياسية وبهذه العقلية أن تقوم بالاصلاحات المطلوبة لزيادة إيرادات الدولة. لأنها هي من صنعت المشكلة، وكل ما تقترحه ليس حلولاً بل مجرد تمرير للوقت وهذا ما نشهده منذ بداية الازمة التي بات عمرها ما يقارب 3 سنوات».
المطلوب 15 مليون ليرة
بلغة الارقام يشرح الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين لـ»نداء الوطن» أن «التضخم الحاصل وتراجع القدرة الشرائية بالليرة اللبنانية بنسبة 95 بالمئة أديا إلى إرتفاع كلفة المعيشة بشكل كبير جداً. والحد الادنى المطلوب لأسرة من 4 أفراد لا يقل عن 15 مليون ليرة شهريا»، مشيراً إلى أنه «من الصعب أن تدفع الدولة هذا المبلغ للموظفين او حتى القطاع الخاص لأنه يؤدي إلى إفلاسهما. واليوم يتم اللجوء إلى حلول آنية ومرحلية من خلال إعطاء الزيادات والمساعدات الموقتة إلى حين استقرار الوضع. وأي تصحيح للأجور في ظل الاوضاع غير المستقرة خطوة غير صحيحة» .
يضيف: «معدل التضخم تجاوز مؤخراً 350 بالمئة وأسعار المحروقات والاتصالات إرتفعت. وهناك اتجاه لرفع تعرفة الكهرباء، بالاضافة الى إرتفاع أسعار السلع عالميا نتيجة أزمة كورونا والحرب الروسية – الاوكرانية، وكل هذه الأمور تدفع الحكومة للجوء إلى حلول موقتة».
الحكومة تحاور نفسها
على ضفة اطراف النزاع يرى رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الاسمرفي حديث لـ»نداء الوطن» أن «ما صدر من الحكومة لم يكن على مستوى الآمال المعقودة على العلاج، وقد تم رفضه من قبل رابطة العاملين في القطاع العام»، معتبراً «أن السلطة كانت تحاور نفسها لحل هذه المشكلة وليس الجهات المعنية. وقد طرحنا الحوار مع المديرين العامين كونهم الاعلم في الادارة ولم نلق تجاوباً، كما أن الحكومة لا تبدي حماسة للتحاور معنا، بل على العكس طرحت إجراءات عقابية وهذا أسلوب لا يتواءم مع هذه المرحلة. وكنا نتمنى أن تتوجه بهذه الاجراءات نحو المهربين والمستغلين وبعض التجار الفجار الذين لا يرحمون الشعب اللبناني».
لا يخفي الأسمر خوفه «من طروحات الحكومة لزيادة الايرادات لتغطية نفقات زيادة الاجور، لأنها تعني أن ما ستعطيه للموظف باليمين ستأخذه منه بالشمال بسبب الاجراءات الضريبية وزيادة الرسوم على كل الخدمات والبضائع»، لافتاً إلى أن «هذا ما بدأنا نراه في الميكانيك والبلديات والاتصالات. وحالياً الحد الادنى للأجور المطلوب اليوم 15 مليون ليرة مع تصاعد أسعار المحروقات وارتفاع فاتورة المولدات الخاصة».
موظفون بسمنة وآخرون بزيت
يستهجن عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي صادق علوية أن «تتحاور الحكومة مع كبار موظفي وزارة المالية ومجلس الخدمة المدنية ومجموعة من المستشارين في موضوع القطاع العام، بدل التحاور مع أصحاب الشأن أنفسهم، ويشرح لـ «نداء الوطن» التخبط الذي يلف هذا الملف بالقول: «رغبت الحكومة برفع الرسوم الجمركية لأن نفقاتها باتت أكبر، وهذا الأمر ينطبق على كل قراراتها في القطاعات الاخرى مثل قطاع الاتصالات»، لافتاً إلى أن « دراسة الجدوى الإقتصادية لقطاع الاتصالات تضمنت رفع أجور العاملين في القطاع الخلوي بالدولار الاميركي. وأصبح الموظفون فيه يتقاضون أجورهم على سعر 3900 وبعدها على 8000 ليرة من دون أن يعتبر أحد هذا الامر أنه سيزيد من التضخم. علما أن رواتبهم تحسم من العقد الموقع بين الادارة اللبنانية والشركات المشغلة لهذا القطاع»، ويشير إلى أن «هذا ينطبق على موظفي شركات مقدمي الخدمات. أما الزيادة لموظفي القطاع العام فجوبهت بسؤال من الحكومة من أين ستتأمن الايرادات؟ وهذا السؤال لا يطرح حين يفتح إعتماد إضافي لتأمين المازوت لإدارات الدولة لأنها مضطرة إلى تأمين تشغيل المرفق العام».
يضيف: «المشكلة أن الحكومة حين تتخذ قراراتها برفع الدولار الجمركي، مثلاً، لا تستند إلى دراسات أو آراء خبراء مختصين لتحديد ما إذا كانت هذه الزيادة ستتضمن رفع الاجور أم لا. وهذا ما فعلته مثلا مؤسسة المياه حين قررت رفع رسومها للحفاظ على القطاع وعلى ربحها وتكاليفها بما في ذلك أجور العاملين. وهذا يعني أن التفكير بأجور العاملين يجب أن يكون من ضمن الاطار الشامل لأي قرار قد تتخذه الحكومة لرفع الرسوم في القطاعات. وهذا ما لا يحصل».
ويختم: «هناك عشوائية وجهل وسعي لزيادة ترهل القطاع العام للوصول إلى قرار بعدم الحاجة إليه، وصولا إلى تقاسمه ضمن المحاصصات السياسية التي تحصل».