Site icon IMLebanon

أداء الموظف العام بين الحق بتغطية حاجاته المعيشية وموجب “الإنتاجية”

 

 

يعود نشوء أزمة القطاع العام في لبنان وتراجع أدائه، بمختلف هيئاته ومؤسساته ومرافقه، إلى أحداث العام 1975 التي استمرت حتى 1990، ولم تستقر أوضاعه نسبياً إلّا عام 1992.

خلال تلك الفترة، أهملت الدولة الإدارة وتراجع أداؤها من مختلف النواحي، مع تراجع القدرة الشرائية للرواتب والأجور. وتمّ التغاضي عن عدم التزام الموظف بكثير من موجباته في غياب الرقابة التي أصابها ما أصاب الإدارة. وبدأ الحديث عن “الترهل”، وازدياد عدد العاملين في الإدارة من دون الحاجة اليهم، الذي طرح إمكانية الاستغناء عن بعض الوظائف، التي لم تعد الإدارة في حاجة اليها بنتيجة التطور المعلوماتي وتأمين الخدمات من قِبل القطاع الخاص، من دون أن يتمّ تنفيذ قرارات الحكومات المتتالية المتعلقة بالإصلاح الإداري، ومن دون معالجة الاستخدام العشوائي للعاملين، وأُضيف إليه خلق وحدات، أو الإبقاء على كيانات غير قانونية توضع في خدمة الوزير، فتأخّر ملء الشواغر في الإدارات والمؤسسات العامة لتمكينها من أداء مهمّاتها، فاستفحل طغيان الوزراء والسياسيين على الإدارة، وتعززت المحسوبية والتبعية وشراء الذمم والتواقيع، وتحول النظام الوظيفي إلى توزيع الغنائم على أساس الطاعة والتواطؤ، فاستشرى الفساد.

مع الوقت وتبدّل الظروف الاقتصادية لم يقتصر تراجع دور الإدارة العامة وأدائها على لبنان، بل أصاب مختلف دول العالم، وكان ذلك بسبب عوامل عدة، على رأسها تطور القطاع الخاص بحيث بات يستقطب الكفاءات لقاء رواتب عالية وعادلة، وتقادم الأنظمة وعدم قدرتها على تلبية مقتضيات الحداثة، ولم يعد الانتماء إلى الخدمة العامة يعني للموظف سوى وسيلة للعيش والارتزاق، وفي كثير من الأحيان لاستمداد السلطة والنفوذ وصرفهما في اتجاه تحقيق المنفعة الشخصية على حساب المصلحة العامة، وباتت الوظيفة العامة للوجاهة الاجتماعية وللتسلّط وممارسة النفوذ والإثراء. وقد ساهم في تفاقم هذه المشكلة تراجع الرقابة على أعمال الإدارة وموظفيها.

 

فوضى وفلتان تشريعي يضاعف أعباء المواطن، والحكومة تواجه الأزمة بتدابير متسرّعة وغير مدروسة سبقت الإصلاح بحدّه الأدنى: تعزيز الإدارة الضريبية وتفعيل رقابتها للحدّ من استشراء الفساد.

 

بنتيجة الانهيار المالي وإفلاس الخزينة وتوقف المصارف عن الدفع والارتفاع الخيالي في سعر صرف الدولار، واحتجاز ودائع اللبنانيين لدى المصارف، وفقدان الرواتب والأجور نسبة عالية من قيمتها الشرائية، بلغت انعكاسات أزمة القطاع العام حدوداً كارثية غير مسبوقة، وكان أن لجأ موظفوه إلى الإضراب والتوقف عن العمل، وأدّى ذلك إلى إصابة الإدارة والمرافق العامة بشلل ترافق مع “نوبة” مكافحة الفساد الغريبة والمفاجئة في توقيتها، وأدّت إلى توقيف موظفين من الدوائر التابعة لهيئة إدارة السير، ومن الدوائر العقارية في مختلف المناطق، والتي كانت ترفد الخزينة بالتدفقات المالية، وعلى رأسها وزارة المال بمختلف مديرياتها المعنية بتحقيق وتحصيل الضرائب والرسوم، فدخلت الأزمة في الحلقة المفرغة، ولم تفلح الصيغ والتسميات المبتكرة في توفير معالجة معقولة وعادلة تغطي تكاليف انتقال الموظف إلى مركز عمله، وتؤمّن له الحدّ الأدنى من العيش بكرامة، فتعمّق الشرخ وبات همّ الموظف الأول، المطالبة براتب يغطي تكاليف معيشته، وهذا حقّ لا جدال فيه.

وقد حصل ذلك في ظلّ حكومة تصريف أعمال وأزمة سياسية طالت، فحالت دون إعادة بناء السلطة والانتظام إلى الإدارة العامة ومؤسسات الدولة، وإقرار زيادات ضريبية هائلة بموجب قانون موازنة 2024، من دون مراعاة مداخيل المواطنين ومنهم الموظف في الخدمة والمتقاعد، وفي ظروف تعجز فيها الدولة، ليس فقط عن ممارسة رقابتها الضريبة، بل حتى عن ضبط السوق السوداء للطوابع المالية وتوفير ما يحتاجه منها المواطن والمخاتير ودوائر النفوس وغيرها من الدوائر الرسمية للاستجابة لتلك الزيادات. وكان قبلها الزيادات التي أُضيفت أو استُحدثت، تحت تسميات وصيغ مبتكرة تخالف القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، وما طرأ من زيادات تتجاوز تحسين المداخيل، شملت تعرفة الكهرباء ورسوم وبدلات المياه والاتصالات، والقيم التأجيرية لاحتساب الرسوم البلدية، والرسوم على خدمات البريد تحت تسمية “تكاليف معالجة”، والـ “بدلات” التي ابتكرتها هيئة إدارة السير، دون أن تتمكن من تأمين الخدمات التي ازدادت رسومها، والزيادات التي فُرضت على رسوم كتّاب العدل دون قانون، والتي لم تتطرق موازنة 2024إلى تعديلها، وأضيفت إليها موجة تطالب المواطن بدفع الرسوم والبدلات بالدولار.

 

علاقة الموظف بالدولة في قانون الموظفين: نظام مغلق، حقوق قابلة للعودة عنها والتزامات غير متكافئة!

 

عند تعيينه، يولّى الموظف الدائم عملاً دائماً في وظيفة ملحوظة في أحد الملاكات التي يحدّدها القانون، ويخضع لأحكام قانون الموظفين ويكتسب في المقابل الحقوق التي تترتب وفق القوانين النافذة بتاريخ التعيين، بحيث يكون لكل مستوى وظيفي راتب، تتحدّد قيمته بالنسبة إلى الوظيفة وليس إلى الموظف، ودرجات تحتسب وفق الفئة والرتبة والدرجة. وكلما علا المستوى الوظيفي علت درجة الموظف وزاد، في المقابل، الراتب المخصّص لها.

 

بمقارنة علاقة الموظف بالدولة لناحية موجب “الالتزام” نجد أنّ الإدارة تملك وحدها، وفي أي وقت، حق تعديل التشريعات والأنظمة الوظيفية، وبالتالي حق تعديل حقوق الموظفين وواجباتهم، سواءً بإلغاء التعويضات أو زيادتها أو إنقاصها، كلها أو بعضها، وتحويل الرواتب، من خلال إقرار سلاسل جديدة لها، تختلف عن سابقاتها بعدد الدرجات، و/أو من خلال توحيد قيمة الدرجة أو اعتماد قيم مختلفة لدرجات الفئة الواحدة من السلسلة العائدة لملاك أو سلك معين؛ ودون أن تبقى منافع الموظف من الراتب وملحقاته، هي نفسها بين سلسلتين. وعلى سبيل المثال، فإنّ سلسلة الرتب والرواتب الصادرة بموجب القانون 717/ 1998، قد أدّت إلى دمج التعويض الخاص في الراتب الجديد، بحيث بات يشكّل جزءاً منه، فخسر الموظف إمكانية تطوّر قيمة التعويض الخاص، وكذلك خسر إمكانية الحصول على راتب مستوى وظيفي أعلى، بعد بلوغ راتب قمة الفئة المعيّن فيها، بحيث بات يمضي كل حياته الوظيفية من دون أن يتطور راتبه مقابل تطور خبرته بازدياد عدد سنوات خدمته، ولم يعد التدرج يسمح بردم الفارق بين درجات رواتب الفئات الوظيفية المختلفة.

 

وقد استمر التزام الدولة بمراعاة مستوى كلفة المعيشة على مستويات الرواتب والأجور، بدليل إعادة النظر تكراراً برواتب الموظفين وأجور العاملين في القطاع العام، كلما ارتفعت هذه الكلفة، وإن كانت الاستجابة لذلك تستغرق دورة طويلة. وكان أن تمّ إقرار سلسلة الرتب والرواتب الأخيرة بموجب القانون الرقم 46 /2017، الذي تضمّن في أسبابه الموجبة إقرارًا بالشغور الكبير الذي تعاني منه الإدارة العامة في ملاكاتها وبأنّ الرواتب، التي يتقاضاها الموظفون، لا يمكن ان تشكّل بحالتها الحاضرة حافزاً لاستقطاب الكفاءات.

إشكالية التعويضات: بين الدمج بالراتب وإبقائها خارجه

 

يشتمل الراتب على “أساس” و”تعويضات”، تُحتسب بنسب ومعدلات معينة من أساس الراتب، بحيث يمكن أن يتقاضى الموظف، إضافة إلى الراتب الأساسي، تعويضات ومخصّصات عند توفر شروط معينة. وهناك التعويضات العامة التي تشمل التعويض العائلي، أجور النقل، تعويض السيارة، تعويض الانتقال، بدل السكن، تعويض التمثيل، التعويض عن الأعمال الإضافية، تعويض للموظفين المدنيين الملحقين بالجيش، تعويض عن ساعات الليل، تعويض عن مسؤولية الصندوق، والمساعدات المرضية. وهناك التعويضات الخاصة ببعض الإدارات العامة، مثل الأمانة العامة لمجلس الوزراء ومجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي، ووزارات الإعلام، والخارجية والمغتربين، والمالية.

 

بعد زيادة الرواتب والتقديمات النقدية والعينية و”بدل المثابرة” التي تمّ إقرارها خارج أساس الراتب، بصيغة بدل نقل يومي و”تنكات بنزين” ودولارات “فريش” توفرت من فوائض الخزينة المجهولة المصدر، هل تنجح الحكومة في إقناع الموظفين، بدءاً من أجهزة وزارة المال، باعتبارها دفعةً على الحساب، بتغليب البعد الأخلاقي والوطني لتحرّكهم في هذه المرحلة الصعبة، حفاظاً على استمرارية الإدارة وعلى مستقبل حقوقهم فيها وعليها، فيتحرّك “حجر رحى” الخزينة، وينتج ما يكفي من التدفقات لتطوير هذه الزيادات بما يستجيب لمطالب الموظفين المحقّة ويغطيها؟!