الموظفون فرفطوا وتفرفطوا وهرهروا
“فلننتفض لكرامتنا لأننا نحن الدولة. أما هم فيسرقون رغيفنا ثم يعطوننا منه كسرة ثم يأمروننا بأن نشكرهم على كرمهم فيا لوقاحتهم!”- موظفو الإدارة العامة في لبنان….وكأنهم يتسولون على أبواب الوطن المشلع. يذرفون الدموع وهم يعدون القروش القليلة، آخر كل شهر، ويقسمونها على ثلاثين يوماً، ثم يجمعون ويضربون ويطرحون، فيخرجون بيقين ودعوة: أيها الزملاء زلزلوا الأرض ومن فيها ولا تسكتوا لأن المصيبة ليست في ظلم الأشرار بل في صمت الأخيار.
لا، لا ينتظر موظفو “الدولة” من يدعوهم الى العصيان وهم من بلغوا نقطة فاصلة بين الحياة والموت والواقع برهان. يكاد لا يلتقي موظفان اثنان، من القطاع العام، إلا والقهر ثالثهما. نجول بين هؤلاء بحثاً عن بارقة أمل فنجدهم ملتاعين، هائمين، محروقين، بائسين.
لا يخلو منزل في لبنان من موظف في القطاع العام. ومنذ حصلوا على السلسلة قامت القيامة ولم تقعد. أخذوا من جهة ويدفعون من اللحم الحيّ من جهة أخرى. وفي آخر هذا المطاف باتوا يفرحون بالفتات. معاش ما عاش الى آخر الشهر. وهذا الشهر، فُجِعوا بخبر انتشر بينهم مثل النار في الهشيم قبل أن يخرج الى الإعلام: لا أجرة نقل هذا الشهر ولا “معاش” آخر الشهر المقبل. ومن يتغيّب خمسة عشر يوماً يُنذر وقد يُقال من موقعه. كثيرون يكثرون من “الشتائم” و”عمرو ما يكون شغل” لكنهم، بينهم وبين أنفسهم، يقولون: بحصة بتسد خابية. لكن، حين تصبح البحصة أجرة طريق يُصبح الأمر مختلفاً.
“شطف” على عاتق الموظفين
15 ألف موظف في القطاع العام. 15 ألف بائس يائس غاضب حزين قلق. 15 ألف ضائع في غابة مليئة بالوحوش اسمها: الدولة اللبنانية. 15 ألف موظف دولة ظنّوا أن الحياة إبتسمت لهم يوم فازوا في امتحانات الخدمة المدنية وحصل كل واحد منهم على لقب: موظف دولة! نام هؤلاء على حرير واستفاقوا في جهنم. وبالنهاية، تقاضوا هذا الشهر معاشاتهم متأخرة وبلا أجرة نقل. وهناك من ينذرهم بأن لا أجور بعد حزيران. وأكثر من كل ذلك، هناك من يطالب هؤلاء، في بعض الوزارات، بدفع مبلغ 20 ألف ليرة شهرياً أجرة تنظيف مكاتبهم، و20 ألفاً أخرى أجرة محارم ورقية. وفي إحدى الوزارات إستشاط الموظفون غضباً بعدما طلب منهم دفع كلفة “شطف” درج الوزارة، التي استغنت، كما كل الوزارات، عن خدمات شركة التنظيف التي كانت متعاقدة معها منذ أكثر من عقد.
أحد الموظفين صرخ: “نحن فيول الدولة، يا بتطلع أسعارنا، يا لازم تنقطع من السوق”. ردّ عليه آخر: “يا خوفي يبدلونا بالطاقة الشمسية”. تدخل ثالث: “ندعو الى انتخابات رابطة موظفين جديدة لأن الحالية نائمة”. علق رابع: “الموظفون نائمون لا الرابطة”… فلنسأل “سميتي” نوال نصر، رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة في لبنان: هل نقول لموظفي الإدارة العامة: إلكم الله ونقطة ع السطر؟
“الريسة” لا تهدأ، لا تسكت، لا تكلّ ولا تملّ. نوال نصر، رئيسة الرابطة، نبت على لسانها الشعر وهي تحكي عن مطالب وتطالب بحقوق. فهل لديها جديد في الموضوع؟ هل هناك ما يُطمئن موظف الدولة؟ تجيب مسهبة: “طالما كانت رواتبنا هي الأدنى، وأتت سلسلة الرتب والرواتب، بعد نضال طويل طويل منذ العام 1974 فأعطوا القضاة السلسلة في 2011، بقينا نناضل نحن الى أن أخذناها في 2017، فهبّت الهيئات الإقتصادية منذرة متوعّدة “بخراب البلد” مع العلم أن عددنا نحن لا يزيد عن 15 ألفاً. هم لم يمنحونا حقوقنا منذ البداية إلا بعد أن أعطوا سلسلة الرتب والرواتب الى كل محاسيبهم ومن بينهم من ليس لديهم أرقام مالية ولم يدخلوا الإدارة العامة بموجب امتحانات الخدمة المدنية ومن حشروا في الإدارة العامة بشكل غير قانوني وبلا أدنى شروط ومن هبطوا بالبراشوت”.
أرقام حال أكثر من مزرية
حصل موظفو الإدارة في القطاع العام على السلسلة بكلفة 612 مليار ليرة، في مقابل كلفة وصلت الى 1500 مليار الى موظفي الكهرباء و… و… أرقام وأرقام… ومساهمات كثيرة الى أوجيرو… وحدث الإنهيار، الذي ألصق بالسلسلة، وبموظفي الإدارة العامة، غير أن أسبابه مختلفة تماماً. تتابع نصر: عرضنا مشاكلنا بدل المرة مرات وأضربنا ولم يسمعنا أحد. إرتضينا بما “يكفي العيال” من خبز وجبنة، أو ربما أقل من جبنة، لكنهم لم يبالوا بنا. قلنا لهم إن المحروقات تحرقنا وإننا لسنا مثل العسكر تقلنا آليات خاصة ولسنا مثل القضاة ننزل يوماً في الأسبوع الى عملنا لكنهم لم يبالوا بنا أيضاً وأيضاً. هناك موظفة من منطقة جنوبية تعبر مسافة 225 كيلومتراً الى عملها فكيف لها أن تستمر بفعل ذلك اليوم؟ طالبنا بمقطوعية نقل، بمعنى أن لا نُلزم الموظفين بالمجيء يومياً ونعطيهم مقطوعية، أي أن يحصلوا على بدل عن اليوم الذي أتوا فيه وعن اليوم الذي غابوا فيه، كي “يتبل” الموضوع بعضه بعضاً. لم يهتموا. والأسوأ أننا سمعناهم يتحدثون عن نواياهم برفع الدولار الجمركي وخدمات الكهرباء ورسوم كتاب العدل وأسعار خدمات الهاتف على أساس الدولار الجديد، بينما بقيت أجورنا على سعر دولار 1500 ليرة و.. و… والموازنة، كما تعلمون، من أول مبادئها ان يكون لها وعاء. لا يمكنكِ ان تفرضي ضريبة على أناس لا يملكون شيئاً وأجورهم باتت “ولا شي” أبداً”.
ثمة وضع مستجد. موظفو الإدارة العامة لم يتقاضوا، أقله حتى اللحظة، بدل النقل هذا الشهر… فهل يسيرون على قاعدة “خربانة خربانة” والآتي أعظم؟ تجيب رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة: “إنهم يساوموننا. تحدثوا عن مساعدات شهرية ويعطلون الحصول على أجرة النقل. قلنا لهم المطلوب تصحيح الأجور لا المساعدة. لكنهم يتلاعبون بنا كما يشاؤون. صندوق التعويضات فقد قيمته. وبالنهاية، سمعنا عن تحويل رياض سلامة أموال صندوق التعويضات الخاصة بالقضاة وفق قيمة 8000 ليرة. ماذا عن أموال صندوق موظفي الإدارة العامة؟ لماذا يعطون فئة ويحرمون فئات؟”.
نكرر السؤال بدورنا: لماذا يحصل كل ذلك؟ لماذا هناك عائلات تعمل في الإدارة العامة يحلم أطفالها بجبنة في الخبز؟ وماذا لو صدقت التنبؤات وتوقفت أجور موظفي الإدارة العامة مطلع تموز المقبل نهائياً؟ وهل هناك هدف كامن وراء ذلك؟ تجيب نصر “مطلوب تخصيص الإدارة العامة. هناك من يقول اليوم إن المؤسسات القائمة “دي مو دي”. وأعتقد أن لا مبررات مالية أبداً لوقف الأجور وإذا حصل ذلك فيكون لسبب سياسي بحت. الدولة تهدر المال. مصرف لبنان يحرق الدولارات. وكثيرون نهبوا وما زالوا. وفي كل مرة يتذرعون بموظفي الإدارة العامة ليتحدثوا عن “حشو” الدولة بفائض من الموظفين يثقل كاهلها. لا، نحن 15 ألفاً فقط لا غير ونتناقص يوماً بعد يوم. وحقوقنا يفترض أن نحصل عليها كاملة وكفاهم “فش خلقهم” فينا. قطاعنا هو الأقل كلفة على الدولة. هناك موظفون يتقاضون حتى اليوم مليون ليرة. في المقابل، هناك مرسوم أشغال في منطقة بحرية، في أرض مساحتها 38 ألف متر مربع، بسعر 750 ليرة. فهل يجوز ذلك؟ أموالنا منهوبة و”يستكثرون” علينا فتات الأجور”.
مؤلم حقاً ما يُصيب موظفي الإدارات العامة. وعدوهم بمساعدة شهرية. أعطوهم مليوناً وبعض القروش الشهر الماضي وقطعوا عنهم أجور النقل هذا الشهر. ولا شيء يمنع أن لا يحصلوا الشهر المقبل على أجورهم. بدليل، تكرار ذكر الموضوع كي يعتاده الناس قبل حدوثه. ستنهار الدولة؟ هذا ما يُراد على الأرجح. يحصل كل ذلك، في وقتٍ هناك من تحدث عن ضرب رواتب النواب بسعر دولار 8000 ليرة. النائب السابق علي درويش تحدث عن ذلك. موظفو الإدارة العامة راحوا يحسبون ويضربون المبلغ الأساسي بسعر 8000 ويتململون ويغضبون. نواب كثيرون أنكروا ذلك. إتصلنا بالنائبة المنتخبة غادة أيوب لسؤالها فجزمت “أن الورقة التي أرسلت لهم تقول إنهم يتقاضون 8 ملايين ومع المساعدات تصبح نحو 10 ملايين ليس إلا”. نصدقها. غير أن ما سمعناه، ويتكرر منذ مدة، يدفع الى السؤال عن نوايا خبيثة بتمرير قرار الزيادة في حين أن 15 ألف موظف في الإدارة العامة ينام أطفالهم بلا عشاء. ما رأي نوال نصر بذلك؟ تجيب “لا يتكلم النواب الحقيقة. فهناك نوايا حقيقية بتمرير الموضوع “على السكت”. هناك نواب لا يعرفون به لكن هناك آخرون يعرفون باقتراب حصوله. في كل حال يقول المثل “لحاق الكذاب على باب الدار”.
هناك، في الإدارة العامة، لم يتقاض الموظفون الذين شاركوا في الإنتخابات النيابية بعد مستحقاتهم. من عُيّن رئيس قلم كان يفترض به أن يتقاضى 3 ملايين و600 ألف ليرة. ومن عُيّن كاتباً كان يفترض به أن يتقاضى 3 ملايين و400 ألف ليرة. لكن، آخر بدعة، هو الطلب من هؤلاء أن ينتقلوا الى سرايا المناطق التي كلفوا بها لأخذ تعويضاتهم. يعني عليهم أن يتكبدوا أجرة النقل والإنتقال مسافات طويلة لذلك! غريبٌ أمر هذه الدولة التي تبرع في الإنتقام من أهلها”.
وماذا بعد؟ ما هو مستقبل موظفي الإدارات العامة في البلد أو بالأصح ما هو مستقبل تلك الإدارات بشكل عام؟
إحداهن إختصرت كل شيء: موظف القطاع العام فرط وتفرفط وهرهر… والبقية بحياتكم!