Site icon IMLebanon

إضراب موظفي القطاع العام: مَن يُخرج الأزمة من عنق الزجاجة؟

 

مداخيل الدولة ومثلها معاملات المواطن مجمّدة إلى أجل غير مسمّى

 

 

هو إضراب عام مفتوح أعلنه موظفو الإدارة العامة في الثالث عشر من الشهر الماضي. الغرض تحقيق مجموعة مطالب على رأسها تصحيح الأجور وبدل النقل والتقديمات الصحية والتعليمية واللائحة تطول. في بلدان العالم التي تتمتّع بحدّ أدنى من منطق الدولة، إضرابات من هذا النوع تشلّ قطاعات وتربك مشاهد سياسية وتطيح بمسؤولين وحكومات. لكن ليس عندنا بالطبع. فالشلل والإرباك سمتان ثابتتان بإضراب أو بدونه، والإطاحة بحكّام ضرب من ضروب المعجزات. والإضراب مستمر حتى إشعار آخر.

 

الأمور تتفاعل سلباً. فالرواتب كما المساعدات الاجتماعية مؤجّلة، الضرائب والرسوم تدور في فلك «اللاتحصيل»، مداخيل الدولة، ومثلها معاملات المواطن، مجمّدة إلى أجل غير مسمّى. هذا دون أن ننسى إنتاجاً زراعياً يئنّ ومواد غذائية تنتظر على أرض المرفأ. كل ذلك وليس ثمة بوادر حلحلة في الأفق.

 

مستمرّون إلى متى؟

 

نتّصل بداية برئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة، السيّدة نوال نصر، التي توضح أن الإضراب الحالي جاء بعد تعذّر أي حلول أو تجاوب من الدولة، رغم مطالبة الموظفين بتصحيح حقيقي للأجور واسترداد ما أُخذ منهم من حقوق نتيجة سلسلة الرتب والرواتب، لكن أحداً لم يحرّك ساكناً. ثورة تشرين وجائحة كورونا والانهيار الاقتصادي جاءت لتقضي على النفس الأخير لموظفي القطاع ما أدّى إلى إعلان الإضراب المفتوح مجدداً. وعليه تناشد نصر: «كفى، نحن أصحاب حقوق والضحية الكبرى التي تتقاضى على سعر صرف 1500 ليرة في حين أن كل شرائح المجتمع تتقاضى منّا على سعر السوق المنفلت على دولار جنوني».

 

الإضراب من حيث المبدأ آلية تُعتمد من أيّ شريحة مجتمعية لا تلقى تجاوباً من الدولة حيال مطالبها أو حقوقها. نصر لا تنكر أن المواطن هو من يدفع الثمن، لكنه ثمن إهمال الدولة لفئة لا يقلّ عددها عن مليوني نسمة – أي موظفي القطاع العام وعائلاتهم – كما الانهيار الذي سبّبه المسؤولون المستهترون وكل من باع في الدولة واشترى. «الموظف ليس مسؤولاً عن ألم المواطن لأنه هو أيضاً يعاني ويتحمل عناء ما يحصل»، كما تقول.

 

الاستثناءات تشمل ما له علاقة بالوضع الصحي والدواء والاستشفاء مع التحذير من تذرّع بعض الشركات بالإضراب من أجل تحميل الموظف المسؤولية ورفع الأسعار. أما المزارعون والتجار، فترى نصر أنهم أكثر من يمارس ضغطاً على الموظف من خلال إصرارهم على قبض أسعار منتجاتهم بالدولار الذي لا يستفيد منه سوى التاجر المحتكر. وتضيف: «خلال دفاعنا عن حقوقنا، لا بدّ من تحميل الآخرين جزءاً من الأعباء التي تحمّلناها وحدنا».

 

هناك وشوشات حول تسبّب الإضراب في الحدّ من إيرادات الدولة. تتساءل نصر: «هل لدى المواطن أصلاً القدرة على دفع الضرائب والرسوم حتى بغياب الإضراب؟ ما ذنبنا إذا كانت الدولة هي من تخلّت عن وارداتها من خلال إعفاء قطاعات وشرائح كبرى من الرسوم الجمركية وتسهيل التهرّب والتهريب الضريبي وتقدمة الهبات وعدم مراقبة الجمعيات الوهمية وغيرها؟».

 

نسأل عمّن لا يستبشر نتيجة مما يجري. «نحن في حالة إضراب قسري وهو الوسيلة الأخيرة المتبقية أمامنا لتحقيق مطالبنا. خطّتنا التصعيد ثم التصعيد مع استخدام كافة الأساليب المتاحة من تصريحات وتوضيحات ورفع الصوت والترجّي والاسترحام والصمود للوصول إلى عقول المسؤولين وقلوبهم وضمائرهم. وإذ لا ندري متى سيحصل ذلك فلا نستطيع تحديد نهاية الإضراب»، تجيب نصر.

 

تحذير ختامي تطلقه نصر من سياسة استخدام المواطن «للّعب على نقطة ضعفنا» من قِبَل الدولة والاستمرار في المراوغة في أساليب التفاوض. «منذ أيام عرضوا علينا اقتراحاً غير مناسب فقمنا بتقديم اقتراح آخر ضمّنّاه تنازلات كثيرة، لكنهم أصرّوا على موقفهم بحجة معارضة صندوق النقد لأي زيادة مقترحة». فالإصلاح المالي الشامل ضرورة، من وجهة نظرها، لإدامة الإدارة العامة وعدم التصويب على أرجلها وإخضاعها تمهيداً لتصفية حسابات خاصة.

 

نحمل كلام نصر ونجول على بعض الإدارات لنعرف أكثر. فكيف هي الأجواء؟

 

 

في دردشة سريعة مع رئيسة مجلس الخدمة المدنية، السيّدة نسرين مشموشي، أكّدت أن موظف القطاع العام يعاني ظلماً كبيراً، ليس فقط لناحية تدنّي راتبه إنما أيضاً الذل الذي يعيشه تأميناً للحدّ الأدنى من معيشته. وفي حين اعتبرت أن الإضراب محظّر، إلّا أن الأمر يتعلق بعدم القدرة على الالتحاق بمكان العمل. «علينا أن نوازي بين كل من الصالح العام ومصلحة الموظف في ظلّ انعدام ثقته بالإدارة. لذا وجب النظر إلى القطاع العام نظرة عامة وشاملة لمعالجة مكامن الخلل في مقوّماته الأساسية لا سيّما لجهة تعزيز قدراته من الموارد البشرية والمالية واللوجستية، مع تفاقم حالة تسرّب الكفاءات منه وانعدام القدرات المادية»، تشرح مشموشي. وأكملت أن المجلس يعمل حالياً على رفع عدة اقتراحات لرئاسة الحكومة من خلال اجتماعات دورية في محاولة لإيجاد الحلول، إذ لا شيء عصيّ عن الإصلاح والتغيير شرط توفر النوايا الحسنة وأشخاص يتحلّون بالشجاعة.

 

شلل مزمن

 

مدير عام إدارة المناقصات، الدكتور جان العليّة، فضّل في اتصال مع «نداء الوطن» استبدال مفهوم «الإضراب» بـ»استحالة التحاق الموظف بمركز عمله»، مؤكّداً أن السبب في شلّ البلد ليس إضراب القطاع العام – الذي انعكس على القطاع الخاص أيضاً – إنما الوضع الاقتصادي الذي منع الموظف من القيام بنشاط الإدارة. هذا الشلل، الذي يدفع ثمنه المواطن، هو نتيجة الاستحالة العملية نظراً لانهيار الواقع المالي والقدرة الشرائية وتواطؤ السياسيين الضمني لضرب سعر الليرة. فالإضراب لم يكن خياراً بل واقعاً فرضته الطبقة السياسية التي عبثت بمصير البلد وأوصلت الخزينة إلى ما هي عليه. العليّة عاد وكرّر أنه «من المعيب الحديث عن مساعدة اجتماعية لموظفي القطاع العام، بل على المسؤولين واجب تأمين استمرارية المرافق العامة، تحت طائلة المحاسبة، حفاظاً على الانتظام العام والاقتصاد وعدم إيقاع البلد بالجمود الذي يعيشه حالياً».

 

لا التزام لهذا السبب

 

نستكمل مع مدير الوكالة الوطنية للإعلام، السيّد زياد حرفوش، الذي اعتبر بدوره أن الإضراب محقّ تماماً ويعبّر عن موقف القطاع العام ككلّ. فموظفو الإدارة العامة ما زالوا يتقاضون فتات الرواتب على سعر صرف 1500 ليرة، ولا يمكن لهذا الوضع أن يستمر، بحسب كلامه. لكن طبيعة عمل الوكالة يفرض عليها عدم الالتزام بالإضراب، إنطلاقاً من حسّ المسؤولية والواجب المهني ومواكبة المستجدات. فهي، بحسب حرفوش، الإدارة الرسمية الوحيدة التي تعمل سبعة أيام في الأسبوع ولم يكبحها ظرف قاهر ولا تعثّر مالي ولا حتى جائحة كورونا. وتساءل: «كيف يمكن للوكالة – ويعود الفضل في استمرار عملها إلى فريق العمل من محررين، مندوبين، إداريين وتقنيين – أن تتوقف عن العمل وهي صوت الناس والمسؤولين والمعارضة والإعلام على السواء؟ لموظفي القطاع العام الإضراب ولنا إيصال الصوت».

 

التزام قسري

 

ننتقل إلى مدير عام هيئة إدارة السير، السيّدة هدى سلوم، التي رأت أن الهيئة لم تكن بوارد الإضراب في هذه الفترة بالذات، مواكبة منها لحملة وزارة الداخلية في قمع مخالفات قانون السير، ما يساهم في زيادة نسبة الإيرادات المحصّلة نتيجة تسديد رسوم المخالفات وفكّ الحجوزات. لكن التزام وزارة المالية بالإضراب، والتي تُعدّ أساساً لإجراء أي معاملة، أرغم الهيئة على الإقفال أيضاً منعاً للهدر في المصاريف التشغيلية. امتحانات السوق مستمرّة للطلبات المعيّنة سابقاً لا سيما تلك المقدّمة لدواعي السفر، في حين أن لا قبول لأي طلبات جديدة. وتقول سلوم: «ندور في حلقة مفرغة، فلا إيرادات محصّلة من قِبَل مؤسسات وإدارات الدولة، من جهة، ولا قدرة للموظفين على الاستمرار، من جهة أخرى. نطالب بتأمين الاستمرارية للهيئة من خلال توفير احتياجاتها. المطالب محقة ونتمنى أن يصل الإضراب إلى خواتيمه المرجوّة».

 

للرواتب أحكام

 

صرف رواتب الموظفين والمساعدات الاجتماعية هو سبب عدم التزام إدارتي الصرفيات والخزينة بالإضراب الذي دعت إليه رابطة الموظفين – على عكس باقي الإدارات الملتزمة – بحسب تعليق مدير عام وزارة المالية، السيّد جورج معراوي، لـ»نداء الوطن». ففي ظل الارتفاع الحادّ في أسعار المحروقات، أصبحت أجور موظفي القطاع العام لا تكفيهم بدل نقل للتوجه إلى مراكز عملهم، كما يلفت: «أظنّ أن رئيس الحكومة ووزير العمل ومجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي ووزارة المالية يحاولون إيجاد الحلول المناسبة لتحسين وضع الموظفين، لكن لا خطوات عملية حتى الساعة، لذا فالإضراب مستمر». ويتابع: «لا تقتصر أضرار الإضراب على المواطن، فالموظف يعاني أيضاً وتبقى الدولة هي الخاسر الأكبر في ظلّ تعثّر إيراداتها وعدم التمكّن من فرض أيّ ضرائب أو رسوم جديدة».

 

وللخدمات الصحية أيضاً…

 

في حديث مع الدكتور يحيا خميس، المدير العام لتعاونية موظفي الدولة، اعتبر أن «وضع الموظف في الإدارات والمؤسسات العامة أصبح كارثياً ومأسوياً. فهو لا يريد تعاطفاً وشعارات من قِبَل رجال الدولة أو الحكام، إنما يحتاج تدابير تسمح له ولعائلته بالعيش الكريم. اللجوء إلى الإضراب هو أقل الممكن بغضّ النظر عن التفاصيل والآليات». بما يخصّ التعاونية، هي غير ملتزمة بالإضراب، ليس لأن وضع موظفيها أفضل حالاً، بل لأنها تقوم بتقديم خدمات صحية ومساعدات مرضية. من هنا كان قرار الاستمرار بالعمل تلبية لاحتياجات المستفيدين من تقديماتها. «يُفترض أن يشكّل الإضراب ورقة ضغط، خاصة أن إدارات الدولة مشلولة. هناك إمكانية لإيجاد الحلول شرط توفّر النيّة الصادقة»، والكلام لخميس.

 

المشهد من زاوية أخرى

 

نعرّج على القطاع الزراعي، وهو من أكثر القطاعات تضرّراً كما يتردّد. رئيس تجمّع مزارعي البقاع، السيّد ابراهيم ترشيشي، وصف لنا ما يحصل بأكثر ما يواجه المزارع اللبناني سوءاً. من جهة لا بدّ من التعاطف مع الموظف بطلباته المحقة، ومن جهة أخرى يعطّل الإضراب القطاع الزراعي كما الدورة الزراعية وموسم القطاف ويؤدّي إلى إيقاف البرادات على الحدود نتيجة عدم التصديق على شهادات المنشأ، برأي ترشيشي، الذي يضيف: «يكفي المزارع ما فيه… روحو عم تطلع… كل شيء يعاكسه من غلاء المحروقات إلى كساد الإنتاج وانعدام القدرة الشرائية. لا يمكن لأي موظف عدم القيام بمسؤولياته حيث البضاعة تتعرّض للتلف تحت أشعة الشمس ما يهدّد بخسارة أسواقنا في الخارج حيث ينافسنا عليها الجميع». وفي حين اعتبر ترشيشي أن الإضراب يساهم في القضاء على القطاع الزراعي، تمنّى على الموظفين الالتزام بواجبهم وضميرهم المهني ملوّحاً بالتصعيد ومحذّراً من تسمية الأشياء بأسمائها. فالقطاع ليس مضطراً لدفع ثمن المناكفات التي تحصل داخل وزارة الزراعة، كما ينهي.

المحاسبة أولاً

 

الجولة طالت ونختمها مع مرجع في إحدى المؤسسات الرسمية لنسمع منه بلا مواربة أن الإضراب لن يُحدث أي تغيير. فالموظفون أساساً، برأيه، في شبه إضراب منذ فترة طويلة وهم بالكاد يلتحقون بمراكز عملهم. وإذ أشار إلى أنه من غير المسموح لبعض الإدارات التوقف عن العمل لما فيه من انعكاسات خطيرة على المصلحة العامة والمواطن، أكّد أحقية المطالب ودعا موظفي القطاع العام إلى السعي لتصحيح الأمور عبر محاسبة المسؤولين عن الإدارات والسياسيين، والتحرّك ضدّ الفساد والطائفية والمحسوبية، بدلاً من تدمير الدولة وهدر مال المواطن وعرقلة معاملاته. وما أدراكم ما المحاسبة…

 

مع، ضدّ أو على الحياد. الواقع يشي بحتمية واحدة: الأمور ليست على ما يرام. فهل يأتي الإضراب أُكله، أم يكون، دون التقليل من أهدافه، ورقة تجاذب أخرى يستغلّها من امتهنوا الرقص فوق آلام البلد والمواطن؟