من خلال ما نَشهده في ملف انتخابات رئاسة الجمهورية، ومن خلال طريقة التعاطي مع الاتفاق الأولّي الذي عُقِد مع صندوق النقد الدولي، مُضافاً الى ذلك، حال العَجز السائدة على مستوى تشريع القوانين المطلوبة لتنظيم المرحلة، ومن ثم تحضير الأرضية لاتفاق نهائي مع صندوق النقد، يبدو أنّ فترة الانتظار ستكون طويلة، ولا بدّ من تنظيم القطاع العام، الى أن يحين موعد الحل الشامل.
بعد ما يُقارب الأربع سنوات من بداية أزمة الانهيار المالي والاقتصادي، تَظَهّرت بعض الحقائق التي أفرزتها هذه الأزمة المُهملة من قبل الدولة، بحيث ان الوضع اصبح على الشكل التالي:
اولاً – إستعاد جزء من القطاع الخاص حيويته، بحيث ان الحركة في بعض المؤسسات عادت الى ما كانت عليه قبل الأزمة. لكنّ ذلك لا يمنع وجود قطاعات لا تزال بعيدة عن استعادة حيويتها السابقة. وقد ساهمت عوامل عدة في هذا الوضع، منها أن مؤسسات كثيرة استفادت من تسديد ديونها الدولارية بالليرة او باللولار، الامر الذي ساهم في استعادة هذه المؤسسات حيويتها.
ثانياً – بدأت في اواخر العام 2022، امتداداً الى النصف الاول من العام 2023، حركة تأسيس شركات ومؤسسات جديدة، خصوصاً في قطاعات يكفي اقتصاد الـ20 % لتشغيلها، او لديها قدرة التصدير الى الاسواق الخارجية. وهذا يعني عودة الاستثمارات، رغم استمرار غياب القطاع المصرفي عن المشهد. وفي حال عادت المصارف الى تأدية دورها في اللإقراض، فإنّ هذه الحركة، على تَواضعها حتى الان، سوف تتضاعف بسرعة تماهياً مع متطلبات السوق.
ثالثاً – أصبح هناك وَفرة من الدولارات في التداول، لأسباب متعددة، من ضمنها ضَخ مصرف لبنان للدولارات عبر “صيرفة”، بالاضافة الى التحويلات من الخارج والتي بات القسم الاكبر منها يتم إنفاقه، بدلاً من ادّخاره، كما كان يجري قبل الأزمة. وبالاضافة الى عودة الحركة الى قسم من القطاع الخاص.
رابعاً – تأقلم قسم من المواطنين مع الوضع، وبات انفاق الدولارات “أسهل” نفسياً مما كان في الفترة الاولى من الانهيار. طبعاً، هذا لا يمنع ان قسماً كبيراً من اللبنانيين ليس قادراً على التأقلم لأنه لا يملك القدرة على ذلك، والموضوع ليس نفسياً هنا.
هذا المشهد بكل تفرعاته يُقابله مشهد آخر يتعلق بالقطاع العام، الذي ينهار تباعاً، وأصبع عاجزاً بنسبةٍ كبيرة عن تأدية دوره في المساهمة في دعم الحركة الاقتصادية التي تنمو حاليا، قبل الانتقال الى خطة التعافي الشاملة. هذا العجز على مستوى القطاع العام، بات يشمل المخاطر التالية:
اولاً – عرقلة نمو حركة القطاع الخاص.
ثانياً – اعاقة الشؤون الحياتية اليومية للمواطنين.
ثالثاً – المساهمة في تقليص حماسة لبنانيي الخارج للعودة الدائمة والدورية الى البلد، مقابل تغذية نزعة الهجرة لدى الموجودين في البلد.
رابعاً – تشكيل خطر حقيقي على المستقبل. وقد تجلّى ذلك في الاضرابات التي شهدها قطاع التعليم، بما حَرم الطلاب من قسم من البرامج المقررة. واستُكمل امس بإلغاء الشهادة المتوسطة. وقد نشهد المزيد من الالغاءات والأزمات في الايام المقبلة، بما يهدد أهم “ثروة” يملكها لبنان وهي مستوى التعليم الذي يؤدي الى تخريج كادرات بشرية مميزة في دول المنطقة.
هذه الحقائق ينبغي ان تشكّل جرس إنذار للدولة. وبما ان تصريف الاعمال قد يستمر لفترة غير قصيرة، لا بد من تشكيل لجنة وزارية مهمتها إنجاز دراسة سريعة ولكن دقيقة يتم فيها تحديد الدوائر الحكومية الحيوية لهذه المرحلة. والمقصود هنا الدوائر التي تنجز معاملات الناس والشركات، والدوائر التي تساهم في إدخال الايرادات الى خزينة الدولة. وبعد تحديد هذه الدوائر، ينبغي تنظيم العمل فيها سواء لجهة تحديد ايام عمل اسبوعية دائمة، او تأمين مداخيل كافية للموظفين للتمكّن من القيام بعملهم. ويمكن الاستعانة بموظفين من قطاعات عامة مختلفة لملء الشواغر في الدوائر التي سيجري تصنيفها على اساس انها حيوية وحساسة، وينبغي ان تعمل وتنتج مهما كانت الظروف.
هذا التدبير المؤقت ينبغي ان يتم اعتماده في اقرب وقت ممكن. أما الاصلاح الشامل الذي ينبغي ان يشمل القطاع العام، والذي شكّل في السابق ثقلاً كبيراً ساهمَ في غرق السفينة بسبب الفائض الفوضوي الناتج عن الزبائنية والتوظيف الانتخابي والعشائري والسياسي وقلة الانتاجية والرشاوى والفساد، فإنّ وَقته سيكون بالتماهي مع بدء تنفيذ خطة التعافي الشاملة بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والدول المانحة والمجتمع الدولي.
يبقى انّ القوى الامنية والعسكرية في حاجة الى عناية خاصة، خصوصاً انها واصلت مهامها كالمعتاد، وكانت بمثابة اسثناء ايجابي ضمن القطاع العام.
كل هذه الاجراءات الفورية المطلوبة يمكن تنفيذها رغم الظروف الصعبة للخزينة، وستشكل نواة صلبة لتسهيل التعافي الشامل، يوم يعود الانتظام السياسي، ومن ثم الانتظام المالي والاقتصادي ضمن خطة الانقاذ الشاملة برعاية دولية. واذا تأخر الانقاذ الى مستويات غير متوقعة، فإنّ هذه الاجراءات ستكون محطة الانتظار الآمِن نسبياً، الى أن يأتي الفرج.