Site icon IMLebanon

محاولة إحياء شمولية النقل العام… شبه يائسة

 

اللبنانيون يتأقلمون مع غلاء المحروقات وكلفة السيارات

 

ثمة مفارقات عديدة يمكن تسجيلها في لبنان في ما يتعلق بقطاع النقل. وأبرزها ما تشير له الإحصاءات عن العام 2021 بأنه تّم تسجيل 762 سيارة جديدة في «النافعة» في عز الأزمة الاقتصادية، كما بلغت كلفة إستيراد السيارات للعام نفسه 812 مليون دولار (قسم منها لإعادة التصدير إلى دول عربية)، في الوقت الذي يسعى فيه لبنان عبر وزارة الاشغال للحصول على قرض من البنك الدولي لتمويل خطة للنقل العام بين بيروت وطبرجا بكلفة 295 مليون دولار تقريبا، كجزء من التصدي لأزمة النقل التي انهار قطاعها على غرار القطاعات الاخرى بفعل الارتفاع الجنوني لأسعار المحروقات وشُحها. ومن دون أن تنجح الوزارة في ذلك لأسباب «لوجستية» تتعلق بشروط البنك الدولي بتوسعة أوتوستراد جونية. ما يعني أن اللبناني وبالرغم من تراجع قدرته الشرائية لا يُدخل استعمال النقل المشترك ضمن خططه لتخفيف وطأة الازمة عليه لأسباب عديدة منها ما هو إجتماعي ومنها ما هو بنيوي. في حين أن لبنان الرسمي يحاول إحياء هذا القطاع من منظور تقني وليس من جانب تفاعلي أي من خلال إعادة الثقة بخدمات النقل العام والمشترك الذي فقد الكثير من مكانته بعد انتهاء الحرب الاهلية وحلول الباصات الخاصة الصغيرة مكانه.

 

 

استهلاك البنزين

 

وبلغة الارقام أيضا يشير عضو تجمع الشركات المستوردة الدكتور جورج براكس لـ»نداء الوطن» أن «مبيعات مادة البنزين تراجعت بنحو 25 و30 بالمئة مقارنة بالكميات التي كانت تُباع في الصيف. ومن المتوقع أن نستمر على هذا المعدل في الفترة المقبلة لأنه لا بديل عن البنزين، وفي حال ارتفعت الاسعار عالمياً مجدداً يمكن أن يتراجع الاستهلاك قليلاً لأن القدرة الشرائية عند المواطن في تقلص مستمر».

 

في المقابل يرى البراكس أن «اللبنانيين تأقلموا مع ارتفاع أسعار كل مستلزماتهم المعيشية وليس فقط المحروقات لأنه لا خيار لهم، وهذا للأسف يحصل في ظل غياب دعم الدولة لهم على غرار ما يحصل في فرنسا مثلاً. فبسبب إرتفاع أسعار النفط العالمية حالياً وتأثيره على معيشة المواطن الفرنسي أعفت الدولة مواطنيها من بعض الضرائب وقامت بدعم إرتفاع أسعار البنزين والكهرباء والنقل».

 

لا نقل عام بمواصفات حضارية

 

هذه المحاولات الفردية للتغلب على الأزمة سببها غياب نقل عام مشترك يتمتع بمواصفات حضارية ويقوم على ثلاث ركائز، تقنية (تلبي حاجة المواطنين للتنقل) وتتكامل مع البنية التحتية والتنظيم المدني، وإقتصادية – إجتماعية تنعكس على العلاقات الإنسانية والمجتمعية الفردية والجماعية، وهذا ما يمكن رصده من خلال محاولة وزارة الاشغال (في ظل الأزمة الحالية) إحياء القطاع باعتباره وسيلة للفقراء حصراً، ما يضرب فكرة وجوده ويمنع إستدامته بعد انفراج الازمة بينما النقل العام في الدول الغربية يستعمله الاغنياء والفقراء على السواء.

 

ما تقوم به وزارة النقل

 

هذا التعامل مع القطاع من زاوية واحدة يبدو أنه سيستمر حتى ولو تمّ تعليق القرض الممنوح من البنك الدولي. إذ يشرح مصدر في وزارة الاشغال لـ»نداء الوطن» أن «البديل عن القرض هو وجود 40 باصاً تملكها الدولة اللبنانية وتجرى صيانتها حالياً، بالاضافة إلى هبة الباصات الفرنسية التي لا تزال سارية ولا علاقة لها بقرض البنك الدولي والتي يبلغ عددها 50 باصاً وستلحقها 50 باصاً أخرى والاجتماعات التنسيقية مستمرة في هذا الاطار»، موضحاً أنه «لا تاريخ محدداً إلى الآن لتسيير باصات الدولة ولكنها ستكون في القريب العاجل وضمن خطة مدروسة موضوعة من وزير الاشغال والنقل علي حمية لسد الثغرات الحاصلة في المناطق وخطوط النقل».

 

ويؤكد أن «الخطة تحاكي حاجات الناس وتخفف الاكلاف عنهم وتنشط الدورة الاقتصادية، أما الهبة الفرنسية فتمّ إقرارها وسلكت مسار التنفيذ وهي قيد المتابعة اللوجستية. ولكن لا توقيت زمنياً لوصولها إلى لبنان، وبعدها ستحصل إجتماعات تنسيقية يتم خلالها الاتفاق على كيفية إدارة هذه الهبة».

 

ويوضح المصدر أن «الاستعانة بالباصات الخاصة ضمن خطة الوزارة لإعادة إحياء القطاع تحتاج إلى إطار قانوني يرعى الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وهذا الموضوع موجود ضمن الخطة الشاملة التي وضعها حمية للنقل المشترك ومن المفترض أن تنفذ في مرحلة لاحقة بعد تخطي العقبة القانونية»، معتبراً أن «أهمية الخطة التي وضعها وزير الاشغال أنها الاولى في تاريخ لبنان ولها أبعاد إقتصادية من خلال محطات التسفير التي ستكون موزعة على كافة المناطق اللبنانية، والوزير حمية مصر على إكمالها لأنها خطة طموحة تحاكي حاجات الناس».

 

التعامل مع النقل «ردة فعل»

 

مقابل كل هذا التشتت الذي يعيشه لبنان في ملف النقل، يقدم الباحث في مجال النقل في جامعة ليون الفرنسية علي الزين لـ»نداء الوطن» ملاحظاته على كيفية إدارة هذا الملف، فيشير إلى أن «الخطة التي وضعتها وزارة الاشغال للنقل المشترك تعاني الكثير من الثغرات إذ لم تستند إلى دراسة معمقة وأرقام وعرض للأهداف»، واصفاً «ما حصل انه أقرب إلى «ترقيعة» أو ردة فعل وكأن السلطة في لبنان تتعرف على أهمية النقل المشترك للتو، فجاءت ردة فعلها نتيجة الوضع المالي والاقتصادي السيئ الذي عصف بلبنان في السنتين الاخيرتين، كما أنها لم تأت متكاملة لكل المناطق».

 

ويرى أنه «من الثغرات أن الخطة أرادت القيام بخطة نقل على كامل الاراضي اللبنانية دفعة واحدة وهذا الامر غير مألوف عالمياً ولا يمكن تطبيقه وخصوصاً في ظرف الأزمة الموجودة»، مشيراً إلى أن»همّ الوزارة كان جلب باصات من فرنسا من دون معرفة حجمها ولا سير عملها وما هو دور النقل المشترك الموجود في لبنان من باصات وسيارات أجرة ، ولا نعرف من هم السائقون الذين سيتولون تسييرها ومن أين سنؤمن كلفة التشغيل والصيانة».

 

تسويق إنتخابي

 

ويعتبر أن «ما حصل جزء منه تسويق إنتخابي لكن الجزء الاكبر هو ردة فعل على موقف صعب وامتصاص لغضب الناس بعد رفع الدعم عن المحروقات، والمشكلة الاساسية هي الاعتقاد السائد لدى الطبقة السياسية ان ارتفاع أسعار المحروقات سيدفع الناس لاستعمال النقل المشترك»، مشددا على أن «هذا أمر غير صحيح، وحتى لو تم تأمين باصات بمواصفات جيدة فهذا الإنتقال سيكون بشكل موقت. ولكن سرعان ما سيعود المواطن إلى استعمال سيارته وبهذه الطريقة لا نكون قد عالجنا الازمة بشكلها البنيوي».

 

يضيف: “بتنا رهينة لأسعار النفط العالمية من جهة وسعر صرف الدولار في السوق الموازية من جهة أجرى، وكلما ارتفع سعر الدولار كلما زادت الاسعار، وهذا يعني ان أساس المشكلة في لبنان اننا رهائن لنظام نقل يعتمد على السيارة ولم يتم إقرار أي خطة لفك الأسر بيننا وبين سياراتنا»، مشدداً على أن «أي حل جزئي لن يعالج المشكلة، والأفضل معالجتها بنيوياً من خلال تفكيك النظام الاجتماعي الذي يعتمد على السيارة، وهذه مهمة البلديات التي عليها تشجيع المواطنين على التنقل على الاقدام من خلال تأمين الارصفة ورسم خطوط لسير الدراجات وإقفال شوارع وتحويلها إلى مساحات عامة وتنظيم النقل المشترك الموجود».

 

53000 باص وسيارة أجرة!

 

 

 

ويذكّر الزين أن «هناك 53 ألف مركبة نقل مشترك ( قطاع خاص) ومن الافضل جلب تمويل لتنظيمها وتشريع عملها، كل هذه الخطوات سهلة وتدفع المواطنين لتخفيف الاعتماد على السيارات وتدريجياً إقرار خطة نقل مشترك لمنطقة تلو الاخرى، لأنه لا يوجد بلد في العالم أقر خطة نقل مشترك لكل المناطق دفعة واحدة».

 

ويلفت إلى أن «الدراسات التي تم إجراؤها في مدينة ليون الفرنسية مثلاً أظهرت أن الخطوات التي تقوم بها الدولة لإبعاد المواطنين عن استعمال سياراتهم من دون أي تعديلات بنيوية في خطط النقل لا تنجح، إذ سرعان ما سيعود الناس لإستعمال سياراتهم عند تراجع الازمات وانخفاض أسعار المحروقات مثلاً، بل نجحت من خلال التغيير البنيوي في انظمة التنقل»، معتبراً أن «المشكلة في لبنان ليست غياب النقل المشترك بل كثرة عدد السيارات، أي العلاقة عكسية بمعنى ان المواطنين يعتمدون بشكل كبير على السيارة. ولهذا فالنقل المشترك غير موجود في حين أن السلطة في لبنان تصورون العكس» .

 

يضيف:»نظرتي الشخصية انه بعد الازمة المستفحلة في البلاد صار همّ الناس تأمين حاجاتهم الاساسية وليس الانتفاض على الوضع القائم لأنهم يئسوا من التغيير، علماً أن هناك تجربتين عالميتين كان تحرك الناس سبباً في تحسن النقل المشترك. الأولى في هولندا بعد الازمة العالمية للنفط في سبعينات القرن الماضي، وهولندا اليوم من أكثر الدول التي تستعمل الدراجة كوسيلة نقل». أما التجربة الثانية فهي تشيلي ففي العام 2019 بدأت الدولة تنظيم أيام من دون سيارات والاعتماد فقط على الدراجات والمطالبات الشعبية بزيادة هذه الايام تزداد».

 

ويرى أنه «في لبنان لن تتحرك الناس بسبب إرتفاع أسعار المحروقات فقط بل لأسباب أخرى ومتراكمة، ويمكنهم مطالبة بلدياتهم وأحزابهم بتغيير بنيوي في التعامل مع النقل المشترك، بينما السلطة تصور الازمة بأننا نعاني من نقص في الباصات وهذا خطأ».

 

ويختم:»لو استعملنا 10 بالمئة من الاموال التي صرفتها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي على تثبيت سعر الصرف، لإعادة تفعيل النقل العام بالطريقة الصحيحة ما كنا بحاجة إلى قرض البنك الدولي (295 مليون دولار)».

 

شهادتان: ممرضة وسائق

 

تروي الممرضة فاتن نعيم لـ»نداء الوطن» أنه «بعد ارتفاع أسعار البنزين إتفقت مع زميلاتها على أن تستعمل كل واحدة منهن سيارتها الخاصة اسبوعاً في الشهر، على أن تقل باقي زميلاتها معها إلى العمل لتخفيف فاتورة البنزين عليهن. ولم يفكرن أبدا في استعمال الباص الخاص بسبب مزاجية بعض السائقين المعروفة على حد تعبيرها. وترى أن هذه المزاجية هي نفسها عند بعض سائقي السيارات العمومية».

 

أما على ضفة السائقين العموميين فيشير السائق عبد المولى حيدر لـ»نداء الوطن» أن «أزمة إرتفاع أسعار المحروقات خففت من عدد الركاب الذين يرغبون بالانتقال عبر «السرفيس» بدل أن تزيده. وغالباً ما يكون مجموع ما يجنيه آخر النهار زهيداً جداً إذا تم إحتساب كلفة البنزين والزيت».

 

هاتان الشهادتان يمكن أن تفسرا أسباب استمرار إزدحام السير في بعض المناطق، أي أن اللبنانيين «يتحايلون» على واقعهم الجديد بأشكال مختلفة من دون التخلي عن استعمال سياراتهم الخاصة.