لم تنفك الأزمات المتلاحقة تنهمر على لبنان طيلة العامين الماضيين لترخي بظلالها على جميع القطاعات الحيوية من دون استثناء. لقد شكل اندلاع ثورة 17 تشرين بارقة أمل بتغيير طال انتظاره. إلا أن الأحداث المتتالية، وفي طليعتها تفشي جائحة كورونا والانهيار الاقتصادي المتمادي، زادت الأمور تردياً وجعلت الحلول بعيدة المنال. بدورها، لم تسلم دور النشر ومعارض الكتاب هي الأخرى من تبعات الأوضاع الراهنة. فمعاناة القطاع تزداد يوماً بعد يوم ما يؤثر سلباً على الإنتاج الثقافي بلا معالجات ناجعة في الأفق.
أثر الضربات المتلاحقة على السوق اللبناني
عن أحوال دور النشر راهناً وبيع الكتب وطباعتها ماذا يقول أصحاب الشأن؟
يشير مدير “الدار العربية”، السيّد غسان شبارو، إلى أن صفعات متتالية تلقاها القطاع الثقافي في لبنان مؤخراً، لا سيّما دور النشر ومعارض الكتاب، أدت الى ما آلت اليه الامور اليوم.
ويضيف السيّد شبارو أن تطورات ما بعد 17 تشرين وما نتج عنها من إقفال للطرقات وصعوبة في التوزيع نتج عنها إغلاق العديد من المكتبات. ثم جاءت جائحة كورونا بمثابة ضربة موجعة بسبب تعليق الكثير من المعارض فعالياتها بعد أن كانت تعتبر وسيلة أساسية لترويج الكتب وبيعها. وفي حين أن المواطن اللبناني غالباً ما ينقّب عن الحلول حتى في أوج الازمات، فقد اتجهت دور النشر الى تكثيف البيع الالكتروني، لا سيّما وان القارئ – خلال فترة الحجر المنزلي – بات يجد متسعاً من الوقت المخصص للمطالعة عبر استبدال الكتب الورقية بالنسخ الالكترونية.
لكن ومع بدء تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية وتفاقم الأزمة المصرفية، بدأت الخسائر تزداد شيئاً فشيئاً بسبب تفاوت الأسعار الجنوني بين الليرة اللبنانية والدولار الاميركي، خاصة وأن الكثير من الكتب تُسعّر بالعملة الاجنبية. وهذا ما أدى أيضاً الى تراجع عجلة بيع الكتب الالكترونية. وبحسب السيّدة رانيا المعلّم، مديرة تحرير “دار الساقي”، فإن هذا النمط – أي “الثقافة الالكترونية” – أصبح متعذراً بعد الأزمة لمن لا يملك بطاقة ائتمان او أجهزة قراءة الكترونية او حتى لمن جُمّدت حساباته المصرفية. وتضيف بأن الكتاب الذي كان سعره 30 الف ليرة لبنانية، أي ما كان يعادل 20 دولاراً اميركياً، مثلاً، ارتفع سعره اليوم إلى حدود 400 الف ليرة لبنانية. وتتساءل: “كيف للمواطن الرازح تحت وطاة غلاء أسعار المواد الأساسية أن يبتاع كتاباً بهذا السعر؟”.
من ناحية أخرى، فقد توقفت الاصدارات بشكل ملحوظ في الكثير من دور النشر، أو تقلّصت بنسبة 20% على اقل تقدير، بحسب ما أشارت اليه مديرة “دار الآداب”، السيّدة رنا ادريس. وهذا يعود الى كون أصحاب المطابع بحاجة الى الأموال الطازجة (Fresh Money) ليتمكنوا من شراء الحبر والورق ولوازم الطباعة الأخرى، ناهيك عن تسديد مصاريف الشحن. أما الموظفون، وبسبب شبه انعدام قدرتهم الشرائية، فباتوا يطالبون يوماً بعد يوم بزيادة على رواتبهم. وهذه جميعها أسباب ساهمت في إثقال العبء الملقى أصلاً على كاهل دور النشر بدون استثناء.
هنا مثال آخر على توسع نطاق المعاناة. فقد انخفضت نسبة المبيعات في دار هاشيت-انطوان الى 50%، بحسب احد مصادر الدار. إذ على الرغم من أن الدار لم ترفع الأسعار تماشياً مع تحليق سعر صرف الدولار الاميركي، لا بل هي خفّضت سعر الكتاب المدرسي بمعدل 55%، إلا ان نسبة مبيعاتها شهدت تراجعاً ملموساً.
فوق هذا وذاك، حلّت أزمتا تقنين التغذية بالتيار الكهربائي وشح مادة المازوت لتزيدا الطين بلة. فقد أصبح انتظام عمل دور النشر والمطابع تحت رحمة أصحاب المولدات وأوقات التشغيل، اذ يستحيل على الدور والمطابع تحمّل التكلفة المترتبة عن اللجوء الى السوق السوداء لشراء مادة المازوت وتشغيل المولدات الخاصة. وليس ثمة عجب في أن العديد من المطابع راحت تقفل أبوابها الواحدة تلو الاخرى لاستنزافها إمكانيات الصمود.
بحسب مدير تحرير “دار التنوير”، السيّد حسن ياغي، لم يعد هناك هامش للتعويل على سوق بيع الكتاب اللبناني نتيجة استفحال الأزمة الاقتصادية. فلتغطية خسائر السوق الداخلية بداية، كان الاتجاه غالباً نحو المعارض العربية، كون الأخيرة تشكّل ركيزة دعم أساسية لإمداد الناشر بالسيولة المطلوبة تأميناً للاستمرارية. أما أبرز الأسواق العربية، فتتركز في السعودية، الأردن، البحرين، مصر والإمارات العربية المتحدة (خاصة ابو ظبي).
إلا أن السيّد ياغي يتوقف هنا ليضيف ان “تداعيات جائحة كورونا جاءت لتشكّل صفعة جديدة لنا في الأسواق الخارجية، إذ حدّت من عديد زوار المعارض العربية، وبالتالي لم نعد نحقق المبيعات المرجوّة”.
في سياق متصل وفقاً للسيّد شبارو، فقد تقلص حجم الندوات الثقافية وكافة الأعمال والمعارض المختصة بالكتاب في دول الخليج العربي. ولا يمكن هنا،أن نتجاهل، بحسب تعبيره، “انعكاسات تعرّض العلاقات الديبلوماسية بين لبنان والكثير من الدول العربية الى الاهتزاز، بحيث ألغي العديد من المعارض، لا سيّما في السعودية التي كانت تعتبر السوق الأول لبيع الكتاب اللبناني”. ومما لا شك فيه أن تراجع فرصة المشاركة في المعارض العربية يُعتبر بحدّ ذاته خسارة كبيرة لدور النشر في لبنان وتحدياً يضاف الى مختلف الأزمات الآنفة الذكر.
صمود رغم المصاعب
ثمة حسرة مشتركة عبّر عنها كل من السيّدة ادريس والسيّدين شبارو وياغي على استمرار غياب معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، وهو الذي لم يغلق أبوابه حتى خلال الحرب اللبنانية. فقد حالت جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية دون تنظيمه لسنتين متتاليتين بعد أن كانت مختلف دور النشر تعوّل عليه لتسويق منشوراتها. وحتى الساعة، يحد غياب أية مساعٍ جدية لاعادة احياء المعرض من امكانية اعادة فتح أبوابه عما قريب.
المشهد العام لما قد تحمله الأيام الآتية لا يبعث على الكثير من التفاؤل في ظل تقاعس الدولة، عامة، ووزارة الثقافة، خاصة، عن العمل على النهوض بالقطاع. ونتيجة انعدام الخطط الجذرية لمواجهة الواقع المرير لدور النشر كما أية استراتيجية فعالة لإعادة تنشيط الواقع الثقافي بشكل عام، ينهي السيّد شبارو كلامه قائلاً: “لا ننتظر شيئاً من الدولة. فالجهود كلها فردية لكن سيبقى الكتاب اللبناني في الطليعة، شكلاً ومضموناً ونوعية”.
يقول الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو: “الثقافة هي صرخة البشر في وجه مصيرهم”. فلنواظب على رفع الصوت.