Site icon IMLebanon

شدّ حِبال… طويل

 

لا خلافَ بأنّ المنطقة دخلت مع الاتفاق النووي في مرحلة جديدة، ولكنّ الخلاف هو في قراءة هذه المرحلة بين مَن يعتبرها انتصاراً للمشروع الإيراني، وبين مَن يرى فيها نهاية لهذا المشروع، فيما الأمور ليست بالتأكيد بهذه البساطة.

من البديهي أن يروِّج الفريق الممانع لانتصارٍ ما بعده انتصار، إن عن قناعة أو لمجرد الترويج، بأنّ الاتفاق النووي أراحَ طهران، وسيقوّي كلّ مكوّنات محور الممانعة وفي طليعتها «حزب الله»، وأنّ المسار النووي لا علاقة له بمسار المنطقة، وأنّ الاتفاق في هذا الملف لا يعني انسحابه على القضايا الأخرى وأبرزها الدور الأميركي الداعم لإسرائيل، وأنّ المرحلة المقبلة ستكون الأكثر حماوة لسببين: الاستفادة من الدينامية التي أحدثها هذا الاتفاق من أجل ترجمتها على الأرض، وجسّ ردّ الفعل الغربي والأميركي تحديداً على هذا الصعيد.

ويعتبر الممانعون أنّ توقيع النووي يمنح إيران فترة سماح ستستغلّها لتحقيق انتصارات عسكرية، وسيشكل التصعيد اختباراً حقيقياً للسقف الذي يمكن أن تبلغه طهران في تصعيدها بعد النووي، ما يجعل المرحلة المقبلة، بالنسبة إلى هذا الفريق، الأكثر سخونة في محاولة لفرض أمر واقع جديد.

أما فريق الاعتدال العربي فيرى أنّ الحلم الإيراني بامتلاك القنبلة النووية انتهى، وأنّ كلّ سعيها وجهدها واستثمارها في هذا المجال ذهب أدراج الرياح، وأنّ انتهاكها للاتفاق سيعرّضها للحظر مجدَّداً، وأنّ طيّ صفحة النووي سيفتح صفحة دورها في المنطقة على مصراعيه، خصوصاً لجهة دعمها القوى الميليشياوية على حساب الدول والمؤسسات الشرعية وضربها للاستقرار في هذه الدول، الأمر الذي سيضعها تحت المراقبة المشدَّدة، ويحمِّلها تبعات أيّ تصعيد، ويلزمها الدخول في مسار تفاوضي لحلّ الأزمات الساخنة، وأنه لا يمكن لإيران التي التزمت الشرعية الدولية في النووي أن تخرج عن هذه الشرعية، وأنْ لا أفق لكلّ الميليشيات الإيرانية سوى تسليم سلاحها والانخراط في مشروع الدولة.

لكن، في معزل عن هذا الرأي أو ذاك لا بدّ من تسجيل الآتي:

أولاً، المفاوضات النووية استغرقت أكثر من عشر سنوات، وشهدت «شدّ حبال» كبيراً إلى درجة كانت معرّضة للانهيار والعودة إلى النقطة الصفر في محطات عدة، وبالتالي لا يُفترض توقع تراخٍ إيراني ربطاً بدورها، فمَن يتشدّد نووياً يتشدّد إقليمياً، وإذا النووي استغرق كلّ هذا الوقت، فليس مستبعَداً أن يستغرق البحث في الملف الإقليمي وقتاً مضاعفاً.

ثانياً، الهدف الإيراني الأساسي من وراء التحوّل إلى دولة نووية ليس استخدام القنبلة النووية في وجه إسرائيل وغيرها، لأنّ إيران دولة حكيمة وعاقلة بمعزل عمّا يصدر عنها من مواقف عنترية، بل هدفها الأساسي توسيع رقعة دورها وتعزيزه، ما سيجعلها تركّز جهودها على كيفية تثمير علاقاتها مع الدول الغربية وما حقّقته على المستوى النووي، وذلك في سياق خدمة دورها الإقليمي.

ثالثاً، المجتمع الدولي الذي تعامل بحزم مع طهران في برنامجها النووي، لا شيء يضمن أن يتعامل بالطريقة نفسها مع دور إيران الإقليمي، بل كلّ التوقعات أنْ لا يبدي الجدّية نفسها، لأنه في الملف النووي معنيّ مباشرة بتداعياته وانعكاساته، الأمر الذي لا ينسحب على الدور الإقليمي لإيران.

رابعاً، المجتمع الدولي وتحديداً أميركا أبدت كلّ جدّية في مطلع تسعينات القرن الماضي لرعاية مفاوضات عربية-إسرائيلية، ولكن عندما لم تحقق تلك المفاوضات الغاية المرجوَّة منها سحبت واشنطن رعايتها، بمعنى أنها رضخت للأمر الواقع ولم تضع كلَّ ثقلها لتحقيق الاختراق المطلوب، وما انطبق على المفاوضات العربية – الإسرائيلية قد ينسحب على المفاوضات السعودية – الإيرانية، حيث ستسحب واشنطن رعايتها في اللحظة التي ستلمس فيها وجود صعوبة لإنجاز التسوية الموعودة، الأمر الذي سيعني استمرار المنطق النزاعي نفسه.

خامساً، مَن قال أساساً إنّ المجتمع الدولي يريد إنهاء الصراع في الشرق الأوسط؟ ومَن قال إنّ مصلحته تكمن في إنهاء هذا الصراع؟ ومَن قال إنّ أولويته ليست في إرساء توازن رعب يكون هو المستفيد الأول منه؟ ومَن قال إنّ كلّ هدفه لا يكمن فقط في ضبط حدود هذا الصراع منعاً لانفلاته من الضوابط المرسومة؟

وتأسيساً على ما تقدّم يمكن استنتاج الآتي:

أ- الانتقال من مرحلة الحروب وعدم الاستقرار إلى مرحلة السلام والاستقرار ممكن في حال واحدة وهي أن يكون الالتزام الغربي بهذا الهدف بمستوى التزامه بالمسار النووي نفسه، وفي حال كان كذلك لا يجب توقّع شيء في القريب العاجل، لأنّ الممانعة التي مارستها طهران في النووي ستُمارسها على مستوى دورها الإقليمي.

ب- يصعب توقّع تخلّي إيران عن القنبلة النووية ودورها الإقليمي في آن معاً، الأمر الذي سيعني تشدّدها على هذا المستوى، فضلاً عن أنّ انتقالها السريع من مرحلة إلى أخرى يؤدّي إلى انهيار نظامها، ولذلك ستسعى في أقصى الأحوال، إذا كانت بهذا الوارد أو ملزمة، إلى تحوّل بطيء منعاً لانهيار من هذا النوع.

ج- مسألة تقاسم النفوذ بين الرياض وطهران ليست مسألة بسيطة، فإيران لن تتنازل بسهولة عن الرئيس السوري بشار الأسد، ولن تسهّل عملية تسليم «حزب الله» سلاحه والانتقال من دوره الإقليمي إلى مجرّد لاعب محلّي، ولن تتخلّى عن الورقة الفلسطينية.

وإن دلّ ما تقدّم على شيء، فعلى أنّ المرحلة التاريخية الجديدة التي دخلتها المنطقة لن تكون أقلّ صعوبة وكلفة من المرحلة التي سبقتها، وأنّ الوصول إلى تسويات وحلول للأزمات المتفجّرة ليس بالسهولة التي يتصوّرها البعض، وإذا كان من المبكر الحكم على الاتجاه الذي ستسلكه التطوّرات، فإنه في ضوئها يُفترض باللبنانيين إعادة تحديد أولوياتهم، لأنّ الدخول في مرحلة التسويات شيء، والاستمرار في مرحلة النزاعات المفتوحة شيء مختلف تماماً، وبالتالي كلّ مرحلة تتطلّب إدارة مختلفة بما يحفظ لبنان ويُبدّد هواجس الجماعات داخله.