لم يعرف اللبنانيون، حكاما وسياسيين ومواطنين، تجربة لعينة “مدنية” في زمن السلم مثل ازمة النفايات الاخيرة ليس بواقعها البيئي والخدماتي البشع فحسب بل ببعدها المعنوي المذل. تكاد هذه الكارثة تمثل قصاصاً لصورة اللبنانيين الذين لا يخرج منهم ناج واحد من تبعاتها. ومن أسوأ ما يواكب أيامها القاتمة ان تساوى فيها الضحية والمسبب، والمسؤول السياسي والمواطن، حتى وُصمنا جميعاً بتلك الصورة التي لا تختلف أبداً عن أكوام “العطر” المنتشرة على امتداد مناطقنا.
“انتشر” اللبنانيون على مواقع التواصل الاجتماعي يمعنون في ما يحترفونه بلغة الشتائم من كل العيارات المقذعة والمتهكمة والدونية في حق الطبقة السياسية والمسؤولين بعشوائية وتعميم حارق لا يرحم ولا يقيم خط تمييز بين مسؤول حقيقي وآخر منتهك لكل معايير المسؤولية وصولا الى قطع شريان الجنوب والاعتصام غضباً. بدا ذلك أبعد من ظاهرة شعب أحرقه الاهمال المديد والفساد الشره الذي لا يعرف حدوداً ولا توقفه روادع. بدا الامر أشبه بتعويض عن ثورة مستحيلة وقهر مزمن لا يجد متنفساً إلا بالشتيمة. ولكنه عكس كذلك سوء الطالع الذي يضع هذا المواطن – الناخب أمام أسوأ ما اقترفته إرادته، فأسلس القياد لطبقة استفاق يوماً ليكتشف انها إما متواطئة وفاسدة أو عاجزة مستسلمة وربما تكون قلة نادرة من اترابها ضحية مثله تماماً.
في المقلب الآخر كاد المشهد يكون خيالياً وليس من هذا الواقع. ليس في العالم حقاً، حتى في العالم الثالث المتخلف اذا سلمنا بهذا التصنيف القائم، مسؤول وليس مسؤولاً سواء بسواء إلا في لبنان. تَرَكُوا الناس على قوارع النفايات والبهدلة والإذلال والخطر الصحي والبيئي اكثر من أسبوع ولم نفقه بعد ماذا يجري ولماذا اجتاحتنا القاذورات والقمامة وشوهت صورة البلد بهذا الشكل المسخ الى هذه الحدود وسط مسؤوليات ضائعة ومضيعة، معروفة ومجهولة، تماما كالمشهد المقزز وروائحه العفنة. كارثة متوارثة ومتراكمة بقديمها وحديثها هي أشبه بفضائح الكسارات والمقالع وكل المفاسد المصلحية الشرهة التي تضج بها اروقة الدولة ودوائرها ووزاراتها وإداراتها وبلدياتها المنتخبة أيضاً وايضاً، ثم النتيجة صفر مكعب في المسؤولية وتحديد المسؤولية والمسؤولين. اما المحاضرون في العفة فلم تعد تتسع لهم الشاشات والمنابر المفتوحة هي أيضاً على شتى أصناف غسل الذمم والايدي بغباء أو بتواطؤ أو بشهوة التنافس العشوائي.
أي قصاص هذا لمجموع مكونات الرأي العام اللبناني الذي كان يتباهى بأنه الاكثر حيوية بين “نظرائه” في المنطقة، فاذا بنا في أسفل الدرك جميعا؟ ولكنه قصاص عادل لانه كشف فينا كل هذا الانهيار، فهل من يحدد لنا معنى “المسؤولية” في هذا الجحيم الفواح؟