مَنْ قال إننا نعيش عصر «ما بعد الكولونيالية» (أو الاستعمار)، أي عصر حرّية الشعوب في تقرير مصيرها، وسيادتها، وحدودها، وعلاقاتها، ونظامها..؟ كأنما، من البدايات، بات هذا الشعار «الفضفاض»، واجهة جديدة لعلاقات هيمنة مقنّعة، بقيت فيه الشعوب التي تقاسمتها الدول «العظمى» والامبراطوريات القديمة (والحديثة)، ترزح بأغلال من «حرير» هنا، وبقيود من الاستعباد هناك، عرضة للمتاجرة، في سوق الرقيق، والأطماع، والصفقات، ها هي فلسطين، وعبر مراحلها، وفي عزّ «احتفالات» العالم بالديموقراطيات، والتنوُّر، والحرّية، والمساواة، والأخوّة، تُوضع في خزائن «السبي» والسلع المهرّبة؛ لمَن نعطيها! لا بدّ من جهة (لا تقارعها أخرى)، تبذل سخاء الوعد الأكبر، والهدية الأثمن. وها هي بريطانيا (الامبراطورية التي لم تكن تغيب الشمس عن مستعمراتها)، تقدّم العرض: وعد بلفور. وعد اليهود بوطن بديل هو فلسطين. «نعدكم بقطعة الأرض هذه، أرض ميعادكم»، فهي بلا شعب. ولا ناس. ولا بشر. حتى بلا طيور. وعصافير وأسماك. وقطط ودجاج! أرض بكر لكم. سكانها من نظريات الكتب، وافتراضات المخيلة، رائع! ولأن الاستعمار دائماً يفي بوعوده (وهم من أهل الوفاء والقِيَم!)، فها هي فلسطين، وبإجماع شبه دولي، تقدّم عام 1948 «شرعياً» وتشريعياً، للصهيونية الطازجة، «التقدمية»، الاشتراكية، حاملة القِيَم الغربية وديموقراطيتها، إلى منطقة القبائل، والأديان السماوية، الثلاثة، أرض «الآلهة» الجدد. وكان للعالم «المتحضّر» الذي تقاسم الشعوب والأوطان بحسٍ إنساني تنويري رهيف عالٍ، بعد الحرب العالمية الثانية أنه تآمر (بكل ما تعني الكلمة) على «السكان الأصليين» في فلسطين (كما تآمر من قبل على السكان الأصليين من الهنود الحمر في أميركا)، وقدّم رؤوسهم على أطباق من فضة، وأفكار حضارية واشتراكية، وشيوعية، وديموقراطية. خلطة محاور الصراع والأيديولوجيات. تماماً كما قدّم هيرودس رأس يوحنا المعمدان على طبق من الفضة لسميراميس!
العالم يتكرّر. يصبح التفصيل قاعدة. والقاعدة نفسها تفصيلاً. فلسطين إثنتان بعد 1948. القدس قدسان. واحدة غربية، استولت عليها إسرائيل، وأخرى شرقية (أرض المقدّسات)، بقيت مع الشعب الفلسطيني الذي ما زال يخضع لاختبارات تجريبية، للتأكد من أنه إذا كان شعباً يتمتّع بالصفات الإنسانية التي يتمتّع بها «اليهود»: «شعب الله المختار». إذاً، الأخ بلفور توفاه الله!، تحقق وعده. فيا لهذا الإرث «الخالد»، القدس، وأجزاء أخرى وغزة، تحت سلطة دول عربية: الأردن أو مصر. لكن القدس، بقيت هاجس بني صهيون. وكانت حرب 1967، ومضمارها الأساسي، غير المُعلن، والحقيقي، هو احتلال القدس الشرقية.. تمهيداً لكل فلسطين.
برابرة بني صهيون
في المرحلة الأولى، أي هجمة برابرة بني صهيون على فلسطين، لقيت ترحاباً، من كل العالم «الحرّ»، والتوتاليتاري، و«يا عمال العالم اتحدوا». و«دكتاتورية الطبقة العاملة»، ومركزية الحزب الواحد: الأحزاب الشيوعية العربية (لا سيما اللبنانية) رحبوا بدولة بديل تحمل قيم الاشتراكية واليسار، والعالم المُر الحر رحّب بدولة تحمل قيم الغرب والديموقراطية: قوسا العالم التقيا على الاحتفال بالمحتل الجديد. مَنْ تقاسموا العالم بعد هزيمة هتلر، ها هم يدعمون مَن أعطي أن يشاركهم هذه «العطايا» أي إسرائيل! لكن إسرائيل، هل يمكن أن تتوقف عن المضي في استراتيجيتها المتكاملة «إسرائيل الكبرى»، لا! بعد حرب الأيام الستة في 1967، وصلت إلى حيث لم تكن تحلم: من فلسطين، إلى الأردن، إلى مصر، فإلى سوريا. فجأة، أطبقت احتلالها على أربع دول عربية أساسية.
عبدالناصر
تآمر العالم كله على عبدالناصر. استهدف مثلما استهدفت الحدود العربية. هُزم، كما هُزمت. أزيلت عقبة كما أزيلت «شعوب». أين المجتمعات الدولية؟ أين العرب! أين الديموقراطيات؟ لا شيء! لكن، ولقول الحقيقة، أصدرت الأمم المتحدة التي ضمّت ما تيسّر من أنظمة دكتاتورية و«ديموقراطية».. وعدوانية ما ضمت. نعم! أصدرت ما يرفع العتب عنها. قرارات قرارات بأرقام وأسماء يعجز الفرد عن حفظها أو تكرارها. فيض من غيض وغيض من فيض. يضاف: إن «مجلس أمن» قد ألحق، كنبراس، ومقرر، وحازم، في صوغ القرارات العادلة، حفاظاً على «أمن العالم» واستقراره، وحقوق الشعوب. اسمه مجلس أي يتكون من أكثر من عضوين، وصفته الأمن: أن يدافع عن حرية الشعوب. هذا المجلس قام على نظام وقواعد وقوانين «صارمة»، صرامة الصوان، حاسمة، حسم السيف! إذاً: فليكن مرجعية يلجأ إليها كل مظلوم، وكل معتدى عليه، عال! شيء جميل. بل أجمل من أن يُصدق: مجلس ملائكة الرحمة هذا مؤلف من «دول الملائكة العظمى»، إرث نفوذ الحرب العالمية الثانية، الاتحاد السوفياتي (صار بعدها روسيا العظمى، بقيادة بوتين، والولايات المتحدة، ودول من أوروبا.. ثم الصين). وماذا نريد أكثر من ذلك. دول خاضت الحروب وعرفت آلامها، وخرابها، ودمارها، ومآسيها (ومنها مَن فجر أول قنبلة ذرية في العالم في هيروشيما، وقتل بضربة واحدة عشرات ألوف العزل والأبرياء)، رغم كل ذلك عال. مجلس أمن بأيدي هؤلاء «الحضاريين»، أفضل من لا شيء! فليعمل بوفود هؤلاء وبقيادتهم. والأروع في هذا «الجماع» المجلسي، أنه سطر في بنوده، شيئاً غريباً، اسمه «الفيتو». يعني، تتمتع أي دولة عضو في هذه «القبيلة العظمى» بممارسة «حق الفيتو» على قرار يحرز سواء، بالإجماع، أو بأكثرية مطلقة، في مجلس العزاء نفسه، وصولاً إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة..
صوت واحد
صوت واحد قادر على تعطيل كل ما يصدر عن هاتين المؤسستين، اللتين يُفترض أنهما تمثلان شعوب (العالم المليارية كلها). صوت واحد أقوى من إرادة مليارات الأصوات كلها! فهذا المجتمع الدولي الرسمي، الشرعي، بما يمثّله، عاجز حتى عن اتخاذ قرار بشأن حقائق معلنة، وحقائق مثبتة تاريخية، وحقوق راسخة. كل هذا يمكن أن يُشطب بجرّة قلم، أو برفع يد، أو أصابع أو حتى هزّة رأس… ونظن أن وجود أعضاء يمثلون الدول (ومنها الموجودة في مجلس الأمن)، يعني أن معادلات «القوة» والنفوذ، (المعطاة للفيتو)، تتفكك كظاهرة جماعية، لمصلحة الصوت الواحد المعطل، والمفكك (هل تتذكرون الثلث المعطل المفروض في حكوماتنا السابقة؟).
وكان هذا المجلس، سواء في عصر الحرب الباردة بين النظامين الرأسمالي والشيوعي، أم في عصر ما بعد الاتحاد السوفياتي، لعب الدور نفسه، لأن هوية «ممثليه» بقيت في عمقها واحدة: بوتيني – ستاليني – قيصري يلعب لعبة الفيتو: وقد رفعها مرات عدة لمنع اتخاذ قرارات بحق «حليفه» بشار الأسد لارتكابه جرائم ضدّ الإنسانية، واستخدامه أسلحة محرمة، كالغاز، والكيماوي، والكلور، ناهيك عن المجازر، ووضع السجون، والتهجير. صوت قيصري – ستاليني واحد، عطّل كل القرارات و«برّأ» ابن حافظ الأسد. ولا ننسى موقف أوباما المتخاذل الذي كان يهدف إلى إنعاش وازدهار الإرهاب الأصولي، على حساب الثورة الشعبية في سوريا. ثم الآتي أعظم، بعده: ملك العقارات، والفنادق، والاستثمارات، ممثّل الشعوبيات الجديدة والتطرف الأبيض والانجيليين… وحزب الشاي… حليف روسيا – بوتين، معادٍ لكل القيم الديموقراطية.. هو الرئيس الأبيض كفوران الزبد ترامب، الذي هنا يريد قبل كل شيء، بتر كل تواصل في «إنجازات أوباما». جاء لينتقم من رئيس أسود، ومن طريقة عمل «سوداء». عال! لن نعود إلى التفاصيل. لكن من حظوظ فلسطين والفلسطينيين في ما تبقى لهم من سلطة على أرض تُنهش كل يوم بأنياب المستوطنين، لتهوّد، أن الأخ الرئيس ترامب، قرر، ولحرف الأنظار عن فضائحه الجنسية، واقتراب جبل الإدانة من رقبته في قضية التدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية، وتواطؤ هذا الأخير معه، أن يقدم رأس يوحنا المعمدان المقدسي، على طبق من الذهب لبنيامين نتنياهو، زعيم المتطرفين اليهود، الذي ينوء تحت ثقل فضائح الفساد المالي وغير المالي. الفاسدان و«الناصع البياض»، والمرسلان من لدن «الله» لإنقاذ بني إسرائيل، وأميركا من جرثومة الفلسطينيين، والثاني، يطرد المهاجرين، مكسيكيين أو إسلاميين…
إنقاذ العالم
فمَن أجدر من هذين «الرئيسين» بالتحالف، من أجل إنقاذ العالم الحرّ! لا أحد. والدليل: أن الأخ ترامب، أخذ على عاتقه، تنفيذ قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، الذي سبق أن اتخذه البرلمان الأميركي، وحاذر كل الرؤساء على تنفيذه. بقي سيفاً مصلتاً على رؤوس الفلسطينيين. ثم جاء البطل الجديد، ترامب، فسحب السيف، شحذه جيداً بماء العنصرية، والكراهية، والانتقام، وضرب به القدس: «الرمز التاريخي والديني والإنساني» لمليارات الناس في العالم، من مسلمين ومسيحيين، وأرثوذكس وكاثوليك… بات رمز هذه المليارات العظمى في العالم ذا «هوية» يهودية. فكأن لا المسيح جاء إليه أو وُلد في الأرض المقدّسة، ولا دُفن فيها حتى قيامته. ولا أسرى النبي محمد، برسالته التوحيدية، إلى هذه الأرض نفسها! إنها لليهود! وكل ما عداهم، «ليسوا موجودين في توراتنا»، كتابنا المقدس الذي يحضن «تاريخنا» وأساطيرنا، وأنبياءنا، وحدودنا… وحقوقنا.
آخر الأخبار العزيزة تحمل تهديداً مباشراً، من ترامب نفسه، لأعضاء الجمعية العمومية، وتحذيرهم من مغبة التصويت ضد قراره «نقل سفارته إلى القدس». تهديد مباشر، بوليسي، يذكرنا بسلوك الأنظمة التوليتارية، الاحادية: أي أنه يهدد معظم الكرة الأرضية. وقد سبق أن أعلن ترامب أن جدار «البراق»، هو جدار المبكى لإسرائيل.. ولا حتى جدار يحمل رمزاً. ولا مدينة “مقدسة” إلا بصفة إسرائيلية، وهوية يهودية. لا شيء! من جهة المستوطنات، التي تحاصر القدس الشرقية، ومن جهة أخرى توابعها ربما! ولا حجر لفلسطين. ولا حصى. ولا حبة رمل. وصولاً ربما إلى المسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، ومهد المسيح.. فلا مهود ولا لحود. ولا هواء: يمكن أن نشفط الهواء الذي يتنشقه فلسطينيو القدس، ونجفف الماء، ونحرق الشجر.. إنه احتقار لكل التواريخ، ولكل الشعوب.. ولكل الأفكار، والأديان، ما عدا «اليهودية»، و«الانجيلية» وبياض اللون المسموم. وهنا بالذات يتأكد أن مسألة فلسطين، مع هؤلاء، عنصرية بالكامل، عرقية بالكامل. «دينية» بالكامل.. فعروبة فلسطين «خرافة» وتعدديتها الدينية هراء، وناسها أرقام بلا وجوه ولا ماضٍ، ولا مستقبل، ولا حقوق، ولا أرض، ولا منازل، ولا شيء. العدمية المطلقة: كيف يُعدم، شعب كله.. أوليس هذا ما حصل مع الهنود الحمر؟ ألم تُبنَ أميركا على جثث هؤلاء؟ ألم تقم حضارتها كلها على الإبادة العنصرية، ألم تأخذ شرعيتها من مصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات لوافدين، غرباء، من جهات العالم الأربع، لا سيما من أوروبا؟
نحن نصنع «الشعوب» ونحن نلغيها. نحن نبني المدن ونهدم ما شئنا منها. نحن نُعدم البشر، لنخلق إنساناً جديداً على أرض غريبة، هويتها واحدة، معلب بأيديولوجيا واحدة، تماماً كمجتمع الروبوات: إسرائيل مع المتطرفين ونتنياهو عُلّبت، (كما هي جماهير ترامب)، في أحادية عمياء، صماء، بكماء، تنضح بالكراهية، والحقد، والعنصرية. (إنه الرجل الجديد على ركام الفلسطيني الذي علّم العالم النضال والمقاومة والتعدّدية والانفتاح).
إيجابي
لكن ما هو إيجابي، (ربما كالسابق)، أن ترامب يزجّل ويُغرّد وحيداً، وكذلك إسرائيل: العزلتان العميقتان، أمام إدانة العالم لموقفهما من القدس، (وفلسطين) عموماً. 90 بالمائة من شعوب العالم يستنكرون ما ارتكبه ترامب ورحّب به نتنياهو. والمواقف البيّنة في مجلس الأمن والجمعية العمومية دليل على هذا التضامن الشعبي الكبير الذي يعني نهاية «إسرائيل، الضحية الأبدية»، وبداية إسرائيل «السفاحة» المعتدية جلاّدة حقوق الشعوب.
لكن ما افتقدناه حقاً، هو موقف المثقفين الأوروبيين والأميركيين، دعاة الديموقراطية، وحقوق الإنسان وحرية الشعوب في قراراتها المستقلة.. المثقفون، لاجئون، أين؟ إما وراء جبنهم، أو وراء صمتهم المريب، أو وراء تراجعهم الدراماتيكي.
لكن مع هذا، فإن القضية هي قضية العرب والمسلمين والمسيحيين والعلمانيين، وخصوصاً الفلسطينيين أصحاب القضية.
ومن خلال متابعتنا لتجارب قرارات مجلس الأمن، والأمم المتحدة، ومواقف العالم.. يبدو لنا أن كل ذلك، على ضرورته، غير كافٍ، والكرة هي في أيدي الفلسطينيين موحدين (لا متفرقين)، في صوغ نضال (مفتوح على إرادات الشعوب الأخرى المحبة للسلام)، ينبع من طبيعة المرحلة ومن وقائع الأزمة، ومن ضرورات أساليب التصدي للعدوان الترامبي والصهيوني!
في هذا النضال «المدروس»، والمحسوب، والممسوك والمستمر، يمكن تحقيق المطالب والحقوق الفلسطينية الساطعة كالشمس.