Site icon IMLebanon

«تطهير» الحدود السورية

لم تفاجئ تركيا أحداً حين وضعت «داعش» والمسلحين الأكراد الأتراك والمسلحين الأكراد السوريين في كفة واحدة. المفاجأة كانت في قبولها دوراً للرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية في سورية، ما يرضي موسكو وطهران، ويقرّب أنقرة إلى النظام في دمشق، على الأقل بحياد «سلبي».

واضح أن القصف المدفعي التركي على مواقع كردية في سورية يضع أنقرة ودمشق في صف واحد، عبر مواجهة خصم مشترك، بعد سنوات من تحييد النظام السوري المقاتلين الأكراد، فيما كان منهمكاً بقتال فصائل المعارضة المعتدلة.

المفاجأة الأهم أن يطاول القصف المدفعي التركي «خطأً» مستشارين عسكريين أميركيين يقدّمون المشورة للأكراد الذين يقاتلون تنظيم «داعش» في شمال سورية. وإذ دشّنت تركيا معركة «تطهير» حدودها المترامية مع هذا البلد، عشية زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن لأنقرة، أعلنت بوضوح أن المحظور أو الخط الأحمر في الأراضي السورية كما في أراضيها، هو أي كيان كردي يتذرّع بالفيديرالية.

وهو خط أحمر كذلك لدى طهران التي ردّت على المفاجأة الروسية في قاعدة همدان الجوية- نشر مقاتلات استراتيجية قرب منابع نفط- بانتقاد لاذع لإعلان موسكو النبأ الذي بدا محرجاً لإيران، وهي لا تكلّ عن تذكير الجميع بأنها تعتبر نفسها القوة «الأقوى» في المنطقة، القادرة على ضمان أمنها في غياب أي وجود أجنبي.

حتى الآن لا تزال طهران مرتابة من الأهداف النهائية للروس في سورية، فيما الجميع يرجّح معارك شرسة في الرقة والموصل، لأن قراراً أميركياً اتُّخِذ بطيّ ملف «داعش» وتفكيك التنظيم قبل الانتخابات المرتقبة في الولايات المتحدة، في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.

وفي حين تقترب حسابات موسكو وأنقرة حيال التسليم بدور للأسد في مرحلة انتقالية تديرها حكومة لا تُقصي أي طرف من المكونات السورية، تخشى إيران على مصالحها في حال استبعد الروس ترشُّح الأسد لولاية أخرى العام المقبل.

تتقدّم تركيا الآن الى ساحة «تطهير» الحدود مع سورية، بعدما انهمكت بـ «تطهير» مؤسسات الدولة إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة. وهي أدركت أن محاربة الإرهاب ورقة رابحة تعبّد طريق تطبيع العلاقات مع قوة كبرى هي روسيا، وقوة إقليمية هي إيران، ومع إسرائيل التي قد تكون القوة الأولى المعنية أمنياً ودفاعياً بـ «سورية الجديدة»… موحّدة أو مقسّمة.

لكنّ لمسار الحرب ايضاً مفاجآته، أياً تكن حسابات الكبار والمتخاصمين. فحتى لو هُزِم إرهاب «داعش»، وفُكِّكت دولة «الخلافة» التي يزعمها، هل ترفع واشنطن الغطاء عن الأكراد السوريين وتتركهم بين فكي كماشة أنقرة ودمشق؟ وهل ترضى الفصائل المعتدلة في سورية الاستسلام للسيناريو الروسي الذي سيفاوض عليه الكرملين الأميركيين، والأرجح في عهد إدارتهم الجديدة؟

الأكيد أن تركيا تريد دوراً بارزاً لتلك الفصائل في معركة «تطهير» الحدود وانتزاع جرابلس من «داعش»، لتسعى لاحقاً إلى إقناع الروس بـ «اعتدال مقاتلي» المعارضة، والتمييز بين فصائلهم التي تقاتل خصوصاً في حلب. لكن العقدة تكمن في الرهان على مفاوضات يدرك الجميع أنها لن تصمد ولن تتمخّض عن حل بنيوي لـ «الشرعية الجديدة» في سورية، إذا غاب عنها «الأقوياء» على جبهات الحرب، وأي من القوى الفاعلة إقليمياً.

دون الحل في سورية المنكوبة بالدمار والقتل، وطموحات اللاعبين الكبار، أشواط وحسابات معقّدة، ليس أبسطها تقاطع المصالح الروسية- الإيرانية، وافتراقها ربما عند إصرار طهران على انتزاع مقعد في التفاوض على كل الملفات العربية في المنطقة… وإذا كانت موسكو تستعرض أسلحتها الاستراتيجية لتوجّه رسائل الى أميركا والحلف الأطلسي، فطهران أيضاً تستخدم الميليشيات العابرة للحدود، لفرض شروطها في التسويات الإقليمية. وهذه لن يكون البيت الأبيض ولا الكرملين جاهزاً لتبادل أوراقها إلا بعد شهور على ترك سيد «القوة الناعمة» باراك أوباما سدة الرئاسة.

ومرة أخرى، يصول القيصر ويجول، من همدان إلى حلب واللاذقية، فيما كثيرون يتجاهلون حقيقة أن غالبية الروس لا تعرف هدفه النهائي، وهو يتعدّى حتماً مشاكسة الغرب المتردّد، واختبار الأسلحة الجديدة، والتنافس على حصة كبيرة في أسواقها.

الأكيد أن كل دول المنطقة معرّضة لتداعيات أي تسوية تُخمِد بركان الجحيم السوري. وحتى الحل على مراحل سيُنذر بفرض تقسيم ولو هُزِم «داعش»، في حين ينتقل العراق الى مرحلة إعادة تركيب مؤسساته، ومعها معركة أطراف شيعية لفرض شرعية «الحشد الشعبي» بوصفه الراعي الأول للدولة!… معها فصل آخر من حروب المحاصصة والإقصاء.