قام قياديٌّ في «القوات اللبنانية» ومجموعة من الكوادر برحلة حجّ إلى دير سيدة قنوبين، حيث قُرِعَ أوّل جرس أيام الاحتلال العثماني، شاهداً على الأُلفة والانفتاح والحرّية. هذا الدير كان لا يزال منارةً للهداية، يلجأ اليه كلّ الباحثين في لقاءِ صفاءٍ بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان.
كادت رحلةُ الحج أن تكون رياضة روحية بحتة لو لم يُجرِ الوفد «القواتي» نوعاً من القراءة السياسية الاستراتيجيّة للوضع المسيحي في لبنان سالكاً الدرب الترابية، متّكئاً على عقود الدير الخاشعة التي اتكأ عليها سابقاً بطاركة أطلقوا شرارة الحرّية نحو كلّ لبنان، حيث اشتعلت لدى ملامستها السماء.
هذا الوفدُ كان مؤلَّفاً من مثقفين وأطباء ومحامين ومهندسين ورجال أعمال، هم متحدّرون من سلالة الشعب الذي عاش في قنوبين سابقاً، هاجسهم الوحيد السعي بعمقٍ إلى صوت التفاهم بين المسيحيين الذين ولّت أيامُ الخلافات الجوهرية الدامية بينهم واستمرت اختلافاتهم التي يعتبرها البعض أسلوباً خلّاقاً للتعددية الديموقراطية، ويعدّها البعض الآخر نهجاً يُضعف الحضورَ المسيحي في الدولة.
وهنا تحدّث القيادي القواتي عن ثلاث محطات أساسية رسّخت التفاهم بين المسيحيين:
الأولى كانت في نيسان 2011 حين جمع البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الأقطاب المسيحيين الأربعة في إطارٍ واحد وُصِفَ بالتاريخي، أعاد وصلَ ما انقطع سياسياً بين أخصام الأمس بنسيجٍ روحيٍّ حاكه الأب الحبيس يوحنا خوند.
في هذا اللقاء، وضع جميع الأقطاب هواجسهم على الطاولة وعرضوا رؤيتهم للبنان، فكانت وجهاتُ نظر مختلفة في أجواء مصارحة عميقة انتهت إلى اتفاق على وجوب تحصين مناخ الودّ والسلام في الخارج كما في داخل الاجتماع. أما ثمرةُ هذا الاجتماع فكانت تكريسَ ما هو متفق عليه وما هو خاضع للتباينات السياسية المشروعة في وطنٍ ديموقراطيٍّ يحترم الحرّيات والفروقات مع المحافظة على وحدة الوطن واحترام ثوابته وصون مصالحه الأساسية. إذاً تمّت المصالحات وإتُفق على مبدأ وضع الخلافات جانباً وتنظيم الإختلافات وتعهّد الأقطاب الأربعة بقبول بعضهم.
تلك كانت المحطة الأولى للتفاهم المسيحي المسيحي، تلتها اجتماعاتٌ متتالية بين «القوات اللبنانية» وتيار «المردة» للحفاظ على الحدّ الأدنى من التفاهم والتنسيق.
المحطة الثانية وهي الأهم كانت في «تفاهم معراب» الذي كرّس المصالحة بين أكبر حزبين مسيحيَّين في لبنان وأكثرهما شعبيّة «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر»، ما أنهى مرحلةً طويلة من الصراع الدموي الأسود الحاد الذي نشأ ابتداءً من عام 1989 واستمر حتى عام 2015، وقد أثقل كاهلَ المسيحيين.
في هذا التفاهم، تخطّى القواتيون «الأنانيات السياسية» ليعبروا الخط الاستراتيجي المسيحي من خلال ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية.
وتميّزت هذه الخطوة القواتية بالجرأة على الصعيدين المسيحي والوطني، خصوصاً أنّ الفريقين أدركا أنّ نتيجة الحروب التي خاضها المسيحيون مع بعضهم بشعارات متنوّعة ومختلفة، شكّلت تهديداً حتمياً لمصير الوطن واستقلاله، لأنّ المسيحيين لعبوا في تاريخهم ومنذ عصر البطريرك الياس الحويك دورهم الرائد في تحقيق قيامة لبنان الكبير والحفاظ على استقلاله، وفي إضفاء لمسة خاصة على هذا الوطن ميّزته عن باقي الدول العربية، وهذا ما يجب أن يعترف به اللبنانيون من الطوائف الأخرى ويسعون إلى حمايته.
من هنا كانت مصالحة «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» بارقة أمل لإستعادة المسيحيين دورهم الرائد، فقوة المجتمع المسيحي تُعتبر قوة للمجتمعات اللبنانية الأخرى. ويبدو هذا التفاهم رغم استهدافات البعض له أنه متين ولا رجوع عنه، وقد تجسّد في إنجازاتٍ عدة أهمها ترشيح العماد ميشال عون للرئاسة والتصويت على قانون استعادة الجنسيّة والإنتخابات البلدية وأخيراً محاولات متقدّمة للوصول إلى قانون انتخاباتٍ نيابية جديدة.
المحطة الثالثة كانت في كلمة رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في قداس الشهداء وقد قال حرفياً: «من حق البعض التفكير أنّ هذا الاتفاق هو على حساب أحد أو لإلغاء أحد، ولكنّ أقصى تمنياتنا أن نتفاهم نحن وكلّ الباقين انطلاقاً من هذا الاتفاق». ووجّه نداءً «إلى كلّ الباقين وفي طليعتهم الأصدقاء في حزب «الكتائب» كي نبدأ بخطوات فعلية على هذا الصعيد. فهذا الإتفاق لم يحصل كي نجمع من جهة، ونشرذم من جهة أخرى، بل هدفه جمع كلّ الجهات أينما كانت».
وبذلك، تعي «القوات اللبنانية» بأنّ هذا التفاهم لن يصبح فعالاً إلّا إذا اكتمل بمصالحة مسيحية شاملة لا تستثني أحداً من الأفرقاء والتيارات والأحزاب المسيحيّة. ولمَ لا؟ فالتفاهم بين «القوات» و«التيار» ارتكز على بنود عشرة مستوحاة من مبادئ 14 آذار التي تهدف إلى بناء الدولة واسترجاع قيم الجمهورية.
ثمّة بشائر بأنّ حزب «الكتائب» تلقّف دعوة رئيس حزب «القوات» للعمل على انضمام الجميع إلى المصالحة المسيحية المسيحية، وأن يدعموها بمداميك الوحدة ورصّ الصفوف والأهم تكوين رؤية مسيحية استراتيجية واحدة لمقاربة الاستحقاقات الدستورية الكبرى.
على دروب قنوبين، تتلاشى في عيون أفراد الوفد القواتي أموراً عديدة، كانوا يحسبونها مهمّة، لكن هنا يسهل تخطي الحواجز النفسية والشخصية والمصلحيّة الضيّقة في سبيل الأهم: لبنان ومسيحيوه، ضمانة وجوده عبر التاريخ الحديث ليبقى لبنان بمسيحييه ومسلميه قوياً وموحّداً.