أعلنَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدء سَحبِ قوّاته من سوريا على أساس أنّه تمّ إنجاز هدفِ تدمير تنظيم «داعش» في سوريا، وحانَ وقت التسوية السياسية وقطفُ الثّمار الاقتصادية.
إنّما ما بقيَ عالقاً حتّى إشعار آخر هو مصير القوات غير النظاميّة التابعة لإيران في سوريا، بالذات «الحرس الثوري» الذي بدأ يُلاقي تململاً من القوات النظامية السورية.
بالتزامن، أتى إعلان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أنّه تمّ تحرير العراق من «داعش» والانتصار عليه، وأتى معه بدء المعركة الداخلية على مصير ومهام «الحشد الشعبي» ما بعد إتمام مهمّة تدمير «داعش».
إنصبَّت الأنظار على موقف المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني الذي تأسَّس «الحشد الشعبي» بناءً على فتواه. كما على حيدر العبادي الذي ارتبَط مستقبله السياسي بمدى قدرته على حلّ عقدة «الحشد الشعبي» وآفاق حلّه أو دمجه في الجيش العراقي.
إيران ليست في عجَلة لحَسمِ أمرها في سوريا أو في العراق لأنّ الاستعجال ليس في مصلحتها، بل هي تحتاج الوقتَ لترسيخ الفوائد التي اكتسبَتها من خلال أدوار «الحرس الثوري» الميدانية في كلّ من سوريا والعراق.
الولايات المتحدة أيضاً تبدو غيرَ متحمّسة لإعلان موسكو إنهاءَ العمليات العسكرية في سوريا على أساس أنّ المهمّة استُكمِلَت، وهي أوضَحت على لسان الجنرال جوزيف فوتيل VOTEL، قائد القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، أنّه «من الصعب تصوُّر كيف توصَّلوا إلى هذا الاستنتاج».
وقال: «نحن ما زلنا نقاتل هناك. وما زال أمامنا الكثير الذي يتطلّب الإنجاز في سوريا قبل القول إنه تمّ تحرير المناطق التي يَستولي عليها داعش»، ذلك «أنّ تركيزنا هو على إتمام مهمّة إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش».
إنّما ماذا يَعني تماماً تعبيرُ تدمير أو تحطيم «داعش»، أو الانتصار عليه؟ هل يَعني أنّ مقاتلي التنظيم تمّ سحقُهم ميدانياً للقضاء عليهم نهائياً؟ أو أنّ دفعَهم الى الصحراء وإلى سيناء هو ما يحدث فعلاً – والصحراء المقصودة ليست الأراضي الشاسعة البعيدة عن المدن في سوريا والعراق حصراً، وإنّما هي في أعماق شمال أفريقيا بدءاً بليبيا التي باتت محطّة استيعاب «داعشية» بامتياز.
القلق عارمٌ في أوساط دول شمال أفريقيا. أحد المخضرمين في شؤون منطقة المغرب العربي تحدَّث عن كارثةٍ قيد الإعداد نتيجة توافد المقاتلين «الدواعش» من حروب سوريا والعراق الى الساحة الجديدة التي لا تبدو بارزةً على رادار الأولويّات الروسية أو الأميركيّة. رأيُه أنّ المغرب وتونس والجزائر تُراقب ما يَحدث في ليبيا بهلع لأنّها باتت محطّة تجمُّع وانطلاق «داعش» إلى المغرب العربي وما بعد.
أحد المعنيّين الدوليّين بالملف السوري أشار الى أنّ تركيا لا تُخفي استمتاعَها لتوجّهِ «الدواعش» الى سيناء المصرية فيما يُعترَف للحكومة التركية بالشراكة مع روسيا وإيران في حروب تنظيف سوريا من تنظيم «داعش».
فالثأر بين تركيا ومصر باقٍ بالرغم من تقاطع العلاقة المصرية – الروسية والمصرية – السورية مع علاقات تركيا مع الأطراف الفاعلة في سوريا. وتركيا ضالعة في إدارة مصير هذا التنظيم وغيره من التنظيمات الإرهابية في سوريا، إذ إنّها تمتلك مفاتيح المعابر المهمّة.
رأي هذا المسؤول هو أنّ اللاعب الأوّل والأهمّ في سوريا، أي روسيا، يُريد طيَّ الصفحة العسكريّة سريعاً، ولذلك يُريد بدءَ العملية السياسية عاجلاً. هذا لا يعني أبداً أنّ فلاديمير بوتين جاهز لتبنّي العملية السياسية السورية من مفهوم بيان جنيف أو تفسيره بما معناه أنّ العملية السياسية الانتقالية تقتضي تشكيلَ هيئة حكمٍ انتقالي لها كامل الصلاحيات.
فذلك بات فعلَ ماضٍ في القاموس الروسي لأنّ بقاء بشّار الأسد رئيساً أمرٌ محسوم الى حين موعد الانتخابات الرئاسية عام 2021 أو إلى موعدٍ أقرب قليلاً إذا فرَضت جهود المبعوث الدولي ستيفان دي ماستورا تقريبَ التاريخ بعض الشيء. المهمّ لموسكو هو أن توفّر العملية السياسية الغطاء الضروري لسَحب القوات العسكرية الروسية، ولذلك تريد البدءَ بها عاجلاً بغَضّ النظر كم سيَستغرق إتمامها.
روسيا تَعي أنّ الأجندة الإيرانية تتضارب مع الأجندة الروسية في سوريا بالذات من ناحية بقاء «الحرس الثوري» الإيراني ومشتقّاته وأدواته في سوريا، بموازاة مع الجيش السوري الذي تُريده موسكو وحيداً بلا رديف إيراني وتُريده أقربَ الى تلبية أولوياتها من أولويّات غيرها.
روسيا لن تأخذ على عاتقها المواجهة مع حليفها الاستراتيجي الميداني في سوريا. ما تفعله هو تنسيق الأمر الواقع مع الجيش السوري الذي تُساهم في بنائه، وكذلك مع قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، بما يقطع الطريقَ عملياً على الطموحات الكبرى لـ«الحرس الثوري» في سوريا. المسألة مسألة وقت إنّما الخلافات ليست سطحية أو هامشية.
بالنسبة لـ«الحرس الثوري» وأدوارِه بجانب «الحشد الشعبي» في العراق، ما يقوله أحد كبار المسؤولين السياسيّين في «الحشد الشعبي» هو أنّ ذلك كان نتيجة تعاونٍ أمني واستخباري في إطار التكامل الأمني والعسكري مع كلّ الجهات التي تُحارب الإرهاب. إيران منها، وكذلك الولايات المتحدة و»كلاهما حليف» للعراق. يقول إنّ عند دمجِ «الحشد الشعبي» في الجيش النظامي العراقي يجب أن يحتفظ باسمِه دوماً كـ«الحشد الشعبي» لأنّ المسألة «مسألة معنويات».
المعركة على مصير «الحشد الشعبي» ليست سهلة على حيدر العبادي الذي يُحاول أن يكون للعراق علاقات دافئة مع بيئته العربيّة وليس فقط مع إيران. الانتخابات آتية في شهر أيار (مايو) والأحزاب والحركات في تأهّب لمعارك كسرِ العظام حيث بات مصير «الحشد الشعبي» أحدَ أهمّ محطاتها. أهمّ شخصية عراقية في تقرير مصير «الحشد الشعبي» هو الرجل الذي أسَّسه عام 2014 عندما أصدر فتوى «الجهاد الكفائي» لمواجهة تنظيم «داعش»، آية الله السيستاني.
فإذا بارَك بقاءَ فصائل «الحشد الشعبي» ورفضها حلّ نفسها للاندماج في الجيش والشرطة، لحدّد ذلك مستقبلاً منيراً واعداً لحيدر العبادي الذي يودّ أن تكون الإمرة للجيش العراقي وليس لفصيل ولاؤه لـ»الحرس الثوري» في طهران.
أمّا إذا أتت فتوى السيستاني بأن يحلّ «الحشد الشعبي» نفسَه، فإنّ لذلك وقعاً كبيراً على مستقبل العراق. الأرجح كما يقول المصدر المسؤول في «الحشد الشعبي»، هو أن يتمّ حلّ جزء كبير من الـ 140 ألف عنصر في «الحشد الشعبي» على أن تبقى فصائل أساسية لا تتخلّى عن اسمِها ولا عن استقلاليّتها ضمن التركيبة الأمنية. وهذا سيكون صلب موقف السيستاني في رأيه، أو أقلّه بحسب تمنّياته.
زيارة الرئيس فلاديمير بوتين المفاجئة إلى القاعدة العسكرية الروسية، حميميم، في منطقة اللاذقية لها بحدّ ذاتها دلالاتٌ ومغازٍ، أبرزُها أتى في إصدار أمرِ انسحاب قِسم من القوات الروسية من القاعدة في سوريا. فروسيا باقية في سوريا عبر قواعدها العسكرية، وأوامرُ بوتين هي عبارة عن إعلان انتصار روسيا في سوريا.
قد تريد موسكو الاستعجالَ إلى بدء إعادة البناء في سوريا، إنّما هذا ما قد لا تريده إيران أو النظام في دمشق، ذلك أنّ برغم إعلان تدمير «داعش» أو انتصار روسيا أو العراق، إنّ حرب سوريا لم تنتهِ بعد وما تحتاجه دمشق وطهران هو شراء الوقت حالياً. أمّا في العراق، فلقد أعلِنت نهاية تنظيم «داعش»، إنّما المعركة العراقية الداخلية ما زالت في البداية.