لم تكن دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى عقد «مؤتمر الشعوب السورية»، وتسابق وزارتي الدفاع والخارجية لتنفيذ الدعــــوة، تعبيراً عن إمساك روسيا بالملف الســوري وتطوراته بمقدار ما كانت محاولة لاحــــتواء فشل مسلسل آستانة والتغطية عــــلى عجز روسيا فرض تصوراتها الميدانية والسياسية على حلفائها قبل خصومها.
أراد بوتين من دعوته إلى عقد «مؤتمر الشعوب السورية»، استبدلت التسمية بـ «مؤتمر الحوار السوري»، الحفاظ على التحرك السياسي والديبلوماسي الروسي، وعدم التوقف عند عدم تحقيق تقدم فعلي في وقف إطلاق النار في المناطق التي اتفق على «خفض التصعيد» فيها (علق فلاديمير فرولوف، الخبير الروسي في العلاقات الدولية، على نتائج اجتماعات آستانة التي استهلكت عام 2017 بكامله قائلاً: «تبين أن إطار آستانة لا يعمل إلا على شاشة التلفزيون الروسي، إذ نسفت دمشق وحلفاؤها الإيرانيون كل قراراته تقريباً»)، كي يتحاشى الإقرار بفشل مسار آستانة ما يضطره إلى التسليم بالمسار الشرعي الوحيد، مسار جنيف، الذي يحظى برعاية الأمم المتحدة وتتبناه كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول عربية، فالعودة إلى جنيف تعني القبول بمرجعيات التفاوض الدولية، والتي تنطوي، بطريقة أو أخرى، على تغيير سياسي جوهري، ما يعني انهيار ادعاءاته بتحقيق «النصر» وفرض الشروط الروسية في الصراع على سورية، وضياع حلمه بتحقيق «نصر» جيوسياسي كاسح يقود إلى تحقيق هدفه الإستراتيجي: تسليم الولايات المتحدة لروسيا بموقع الند في النظام الدولي والتفاهم معها على معالجة الملفات الدولية والإقليمية.
لكن حسابات البيدر لم تتطابق مع حسابات الحقل حيث واجهت حسابات بوتين عقبات كأداء أولاها حجم ووزن الحضور الأميركي على الأرض السورية (السيطرة على الثلث الأغنى من الأرض السورية، إقامة 8 قواعد عسكرية في نقاط إستراتيجية، نشر آلاف عدة من القوات، كثافة في حركة الطيران، وضع خطوط حمر لحماية حلفائها، رصد مبلغ 500 مليون دولار لدعم القوى الحليفة في سورية في 2018). لم تكتف واشنطن بالحضور العسكري بل تحدث وزير دفاعها جيمس ماتيس عن حضور مدني وديبلوماسي لمتابعة ما سماه «عملية إحلال الاستقرار» وبدء «التركيز على إعادة الإعمار»، ورفض واشنطن تسهيل التحرك الروسي بأشكال عدة، بالتجاهل تارة والرفض تارة، والتحرك الميداني المضاد أخرى، ما سيجعل قرارات موسكو ومخرجات مؤتمراتها بلا قيمة فعلية لأنها غير قادرة على إلزام الولايات المتحدة، التي أعلنت تمسكها بمسار جنيف، بها، وغير قادرة على تنفيذها بحضورها ودورها في سورية (قال فلاديمير فرولوف، الخبير الروسي في العلاقات الدولية: «إن التحدي الأكبر أمام موسكو في 2018 هو خطر انهيار التسوية السياسية الذي سيقلل من قيمة النصر العسكري»).
أما ثانيتها فتعارضات داخل التوافق الروسي التركي الإيراني الهش، فإيران، وعلى رغم إعلانها الموافقة على قرارات آستانة، تتابع خرق اتفاقات «خفض التصعيد» (دفعت النظام والميليشيات الشيعية للهجوم في مثلث شرق سكة حديد الحجاز، والذي يشمل أرياف حلب الجنوبي، وإدلب الجنوبي الشرقي، وحماة الشمالي الشرقي، وفي الغوطة الغربية والحشد في محافظتي درعا والقنيطرة) على خلفية تحقيق مكاسب ميدانية تضمن مصالحها وحصتها من الكعكة السورية في ضوء إدراكها الهدف الرئيس للقيادة الروسية وتوجسها من صفقة أميركية روسية تأتي على حسابها. تركيا هي الأخرى تسعى وراء هدفها الخاص: احتواء المشروع الكردي وضرب مرتكزاته من خلال محاصرة عفرين وتحريك فعاليات عربية لهذا الغرض (مؤتمران للعشائر العربية وتشكيل الجيش الوطني السوري). لم تكتف بتجاهل فحوى اتفاقها مع روسيا وإيران على «خفض التصعيد» في محافظة إدلب: نشر قوات مراقبة في اثنتي عشرة نقطة، بل ركزت على نشر قواتها في محيط عفرين (ثلاث نقاط)، ونسقت عملية انتشارها مع «هيئة تحرير الشام»، المصنفة دولياً منظمة إرهابية، وجددت المطالبة برحيل رأس النظام السوري، للضغط على روسيا من أجل دفعها للموافقة على اجتياح عفرين.
وثالثة العقبات اضطرار روسيا للإبقاء على قوات كبيرة على الأرض السورية، لمعادلة الحضور الأميركي، والموافقة على الإبقاء على قوات إيرانية وميليشياوية تابعة لإيران، للحفاظ على المكاسب الميدانية حتى إنجاز العملية السياسية، وهذا سيحد من فرص التفاهم مع الولايات المتحدة ودول الخليج العربي وإسرائيل على الحل النهائي، ناهيك بتحفظ تركيا على النفوذ الإيراني في سورية، والكلفة البشرية والمادية لذلك، بخاصة إذا تحملت العبء منفردة في ضوء الاحتجاجات الشعبية في إيران ضد السياسة الخارجية واحتمال تقليص تدخل النظام الإيراني أو دعمه المالي أو تراجع دوره الإقليمي، وانعكاسه (العبء المالي) في الداخل الروسي الذي أظهر تململه وتذمره من المغامرات الخارجية، التي جاءت على حساب اقتصاد البلاد وقوت الشعب، بخاصة وبوتين يريد خوض الانتخابات الرئاسية في آذار (مارس) المقبل وهو مكلل بغار «النصر» في سورية. ورابعة العقبات رفض المعارضة السورية وحواضنها الشعبية مؤتمر سوتشي (رفض 44 فصيلاً مسلحاً و 133 منظمة مجتمع مدني والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة المشاركة في المؤتمر، كما تم تداول بيان للتوقيع عليه يدعو إلى رفض المشاركة ويدين من سيشارك)، والحد من فرص مشاركة قوى معارضة حقيقية في ضوء المحددات التي أطلقتها موسكو: لا مكان في المؤتمر لمن يطالب بتنحي رئيس النظام أو يطالب بانتقال سياسي. ما سيدفع موسكو إلى العمل على إجبار المعارضة على حضور المؤتمر عبر تصعيد العمليات العسكرية ضدها، وهذا سيثير نقطة خلاف إضافية مع تركيا التي تسعى إلى استيعاب المعارضة وإدماجها في الحل لا سحقها وتحطيمها. الخامسة والأخيرة الكلفة الباهظة لإعادة الإعمار (تراوحت التقديرات بين 200 و 350 بليون دولار أميركي) والتي تتطلب رضا الدول القادرة مالياً على طبيعة الحل النهائي كي توافق على المساهمة المالية في العملية.
من واقع العقبات الكثيرة والكبيرة، وإصرار بوتين غير الواقعي على تحقيق هدفه الإستراتيجي انطلاقاً من تحقيق «نصر» سياسي في الملف السوري، راجت تقديرات متشائمة تتوقع استمرار الصراع على سورية وتحوله إلى صراع مباشر بين القوى الدولية والإقليمية المنخرطة فيه.