يوم جديد في تاريخ سوريا. يوم، خرج من روزنامة المذبحة، بعد اكتمال السنوات الخمس الدموية… يوم يتجرأ على المستحيل السوري. الحل بات ممكناً بصعوبات فائقة، و «سوريا الثانية» بدأت مخاض التفاوض.
لن يخرس التاريخ أبداً. لا عفو على الارتكاب. سيسرد التاريخ البشاعات المتبادلة والمجازر المتعادلة. سيذهِل التاريخ في رواياته عن تفوق الأفرقاء الأعداء في ابتداع فنون التوحش. سوريا في نصف عقد، أطاحت نصف شعبها وكل تاريخها. سوريا «السلطة» و «المعارضة» والطارئين عليها من الداخل والخارج، أنفقت عبقريتها في ممارسة التعذيب والتهجير والإفقار والقتل والسحل والنفي… سيسخو التاريخ في تسمية آلات القتل والسفك، البدائية والحديثة، «الأصولية» و «الشرعية» الموثقة. وسيسمي القتلة والسفاحين بأسمائهم ورتبهم ومواقعهم وبيئاتهم الحاضنة بهياج من يطلب المزيد ثاراً وانتقاماً. سيتحدث التاريخ عن مدن صارت خرائط للخراب وبلدات باتت صفصفاً وحضارات آلت إلى غبار وأناس تحوّلوا أرقاماً تحت الخيام أو عبر المعابر أو في المقابر المجهولة… سيسمي التاريخ سوريا الضحية وغير معروف إن كان سيجد من تلقبه بتيمورلنك أو جنكيزخان أو أحد مبتدعي «الهولوكوست».
سيقوم التاريخ بواجبه بحياد نسبي. إذ، لن يكتبه المنتصرون. نعمة كبرى ان ليس في سوريا منتصر أو منتصرون. فضيلة سامية، أنهم جميعاً مهزومون، واقتيدوا إلى جنيف بود الأمر وصداقة التحذير.
الحرب في سوريا لم تعد مجدية. برهنت على أنها وسيلة فاشلة وقاتلة وعبثية. أسفرت عن تعادل هدّام، يمكن البناء عليه. رصيد الجميع خسائر فادحة. ما عاد التذاكي العسكري مفيداً ولم تعد مجدية تبريرات التدخل، تأييداً وإدانة. الحروب كلها مسرح لمن يجد فيها مصلحة أو توظيفاً. هكذا هي الحروب، الجميع، في الداخل، تحقق أنه وحده غير قادر على الحسم. ثم تحقق أكثر، بعد تدخل العالم في الحرب قصفاً وتسليحاً وتذخيراً ومعارك.
خمس سنوات ازدهرت بالركام والكر والفر. ثبت ميدانياً، بعد السنوات العجاف سياسياً، أن «تحرير» سوريا وتوحيدها، أكبر من النظام، النظام حافظ على نفسه، كعادة الأنظمة العربية، ولكنه خسر من أرضه الكثير ومن شعبه أكثر… وإن قلب النظام وإسقاط رئيسه وهم واستحالة. تبين، في هذه السنوات الدامية، أن دعم الحلفاء الإقليميين والدوليين للمعارضات وقواها العسكرية، استدرج تدخل حلفاء النظام الإقليميين وتبرع دولة عظمى، روسيا الاتحادية، بالدفاع عن نظام كاد يختنق داخل حصونه وبيئته.
الدول المتدخلة في الحرب لها حساباتها. النظام يحسب حساباته والمعارضة تكرّر شعاراتها وتخوض معاركها بلا أفق. بوتين الفائز في أوكرانيا، دخل حرباً محدودة. الحروب الحديثة ليست حروب انتصارات. هي حروب لإعادة تنظيم التوازنات تمهيداً لحلول تفاوضية. ما كان ممكناً عقد «جنيف 2» والنظام يترنّح، برغم الدعم الإيراني ومشاركة «حزب الله» ميدانياً. رسمت طائرات السوخوي حدود قدرة النظام على الصمود والتفاوض. فيما معسكر السعودية ـ قطر ـ تركيا أرخى بأثقاله كلها بهدف إطاحة النظام إلى أن ألزمته موسكو بهدنة، عند الجبهات الجديدة التي تراجع إليها أدت الحرب حتى الآن الى تجاوز المعادلات المستحيلة، ومنها معادلة المهزوم والمنتصر.
مَن كان يظن أن بوتين جاء لطحن المعارضة فهو مخطئ. كان يدرك متى عليه أن يضرب ومتى عليه أن يتوقف ومتى يفرض على حليفه في النظام، الكفاية الميدانية. يبدو أن بوتين عقلن النظام ودفعه إلى منصة التفاوض، بقوة القادر على تجاوز لاءاته المستعصية. العناوين العريضة التي نص عليها القرار الدولي مقبولة. كل الشياطين والملائكة في التفاصيل.
لم يكن أوباما المنسحب من الحروب، والنادم على تدخله في ليبيا، والمنكفئ عن المنطقة والممتنع عن توجيه ضربة عسكرية لسوريا مستعداً لتغيير «عقيدته» السياسية. «حربه الناعمة» مع حلفائه القدامى أبقت على شعرة معاوية. تكفّل أن يمارس ضغوطاً على «المحور السعودي» لعقلنته، بعدما بلغ الجنون مداه، وما يزال.
عقلنة النظام تطلبت اتفاقاً «ودياً» مع الأسد لتنفيذ الهدنة، وحضور المفاوضات بروحية التسوية. النظام اللاعقلاني، حاول توظيف «انتصارات» بوتين لتقوية موقفه التفاوضي، بطريقة استفزازية أثارت كلاً من أوباما وكيري. جاء القرار الروسي المفاجئ، بالانسحاب الجزئي من الحرب، لوضع ضوابط مادية لمواقف النظام.
وعلى ما يبدو، أن اتفاقاً جرى بين بوتين وأوباما على الأسد. لا يعقل أن تتوقف المفاوضات حول عبارة واحدة، منذ بدء القتال حتى بلوغ «جنيف 3»، وهي «مصير الرئيس الأسد». وإحالة القضية إلى الشعب السوري، هروب إلى الأمام، إذ، عاجلاً أم آجلاً، لا يمكن تصوُّر حل مقبول، بحدوده الدنيا، من دون البحث بموقع الأسد إبان التسوية وإبان تشكيل الحكومة وفي ما بعد. منطق الأمور يقود إلى أن تسوية وحلاً سياسياً سورياً، لا يمكن أن يتجنبا مصير الأسد، حتى ولو أحيل الأمر إلى الانتخابات.
عقلنة النظام ممكنة. لكن، هل يمكن عقلنة «السعودية» المغامرة بكل شيء تقريباً، بما فيها حلفها التاريخي مع واشنطن. أوباما يدعو السعودية إلى مشاركة إيران في المنطقة. وهذا منطقي. لا السعودية ستهزم إيران ولا إيران ستفعل. الاثنتان باقيتان. المصلحة المشتركة تفرض إنهاء حالة الحرب، التي بدأتها السعودية ضد إيران، منذ نشأة نظامها الجديد مع الخميني. ولا أحد يتصوّر أن بإمكان السعودية أن تنتصر في اليمن وسوريا والعراق ولبنان و…
يوم جديد لسوريا؟
طبعاً. بشرط أن تكون الأيام التالية تبشر بغد سوري جديد ولو بعد عام.