ليس شأناً بسيطاً تدارك فلاديمير بوتين امس لتداعيات قراره بالانسحاب (الجزئي) من سوريا. ولا محاولته لجم التأثيرات السلبية التي تركها على منظومة الاسد ووضعية المفاوضين باسمها في جنيف. لكن لم يكن شأناً بسيطاً ايضاً، ولا امراً عارضاً او انفعالياً، القرار في ذاته وفي معانيه الأولى والأخيرة.
يمكن الافتراض (بسعادة) ان بوتين عاد ليقول إن انسحابه لم يعنِ تخليه عن الاسد، وان قواته تستطيع العودة في غضون ساعات الى سوريا، لأنه لمَسَ لمْس اليد مدى هشاشة بقايا السلطة الاسدية، والمدى الذي بلغه تداعيها، ومدى تأثير خطوته المفاجئة على معنويات تلك البقايا، بما (قد) يفتح المجال امام شيء معاكس، ويتعارض مع الأهداف المرجوة (في جنيف وغيرها) وفي مقدمها دفع امور الحل السياسي الى الأمام وتخفيض سقف توقعات وأوهام «الحسم العسكري».
وذلك بالمناسبة يذكّر بـ»القرار» الأولي الذي كان باراك اوباما اتخذه غداة استخدام الاسد الاسلحة الكيماوية ضد اطفال الغوطة صيف العام 2013.. حيث قيل يومها، ان التراجع عن استخدام القوة لم يكن فقط نتيجة ركوع الرئيس السوري السابق وتخليه عن تلك الاسلحة في صفقة لعبت اسرائيل الدور الأبرز في اتمامها! بل ايضاً لأن اقطاب الادارة الاميركية لم يكونوا مقتنعين كفاية بأن بقايا السلطة في دمشق «قادرة» على تحمل اي ضربة وخصوصاً لمراكز القيادة والتحكم والاركان في وزارة الدفاع وفي المطارات العسكرية وفي بعض المواقع الحساسة. وأرتُئي تبعاً لذلك إلغاء الضربة لأن احتمال الانهيار التام لتلك السلطة وارد اكثر من اي شيء آخر! وذلك أمر لم يكن مطلوباً آنذاك، على الرغم من ان «داعش» لم يكن حاضراً! وعلى الرغم من ان «النصرة» كانت شراذم قياساً الى «الجيش الحر»، وعلى الرغم من ان «المعتدلين» في الفصائل السورية المعارضة كانوا في صدارة المشهد والقرار!
تدارُك بوتين امس وطأة قراره بالانسحاب، يشبه الى حد ما «تدارك» اوباما وطأة قراره بالهجوم على الاسد! سوى ان احداث اليوم وتطوراتها تذهب في اتجاه معاكس لأحداث الأمس (ودعونا نصدق ذلك!) اي ان اوباما وجد نفسه امام معضلة احتمال انهيار تام لبقايا السلطة بما يعني بداية حل لأزمة كان المطلوب منها ان تستمر، تبعاً لتوظيفاتها، أكان في شأن «محاورة« ايران في شأن برنامجها النووي، على وقع استنزافها البشري والمادي والقيمي في سوريا، أم في شأن «استراتيجية البلاء» القائمة على تحويل سوريا الى مسرح جاذب «لكل مطلوب« وارهابي وأرعن وعبثي في هذ العالم، والتفرج من بعيد على فخّار عربي واسلامي يكسّر بعضه بعضاً.. ومن دون أن تضطر واشنطن الى دفع اي ثمن بشري او مادي من كيسها!
الحالة الراهنة، تشي بتوجه آخر معاكس، يقوم في اساسه على محاولة بقاء الوضع ميدانياً وسياسياً، في حالة مراوحة من دون دربكات وتغييرات كبرى او حاسمة او جذرية لمصلحة أي طرف، بانتظار مجيء ادارة اميركية جديدة! وبانتظار اكتمال عدّة عربية واسلامية اكثرية، لمواجهة كاسرة مع الارهاب الداعشي!
يمكن للرئيس الروسي ان يطمئن بشار الاسد مرحلياً، لكن لا يمكنه تخفيض مستوى القراءات لخطوته بالانسحاب الجزئي، ولا حصر تداعياتها التي صارت معروفة، أكان لجهة تدليلها على استحالة الحسم العسكري ورفض الاجندة الايرانية الاسدية، ام لجهة إظهار اهتمام فعلي وجدّي بمستقبل علاقات روسيا ومصالحها مع المحيط العربي والاسلامي!
الخطوة الروسية، أربكت واشنطن بقدر ما أربكت الاسد وبطانته وايران وتوابعها. لكنها تدلّ اولاً وأساساً على شيء كبير جداً هو استحالة الحسم العسكري حتى لو أرادت (موسكو) ذلك! وهي في كل حال، تعرف تماماً هذه الحقيقة مثلما سبق وعرفها وخبرها جيش الاسد وشبيحته و»مستشارو» ايران وميليشياتها المذهبية!