لم تشكّل الأزمة الأوكرانية، على رغم حساسيتها بالنسبة إلى روسيا وإلى الحلف الأطلسي، تجربة جديدة لموسكو خارج حدودها سياسياً وعسكرياً، فشبه جزيرة القرم كان جزءاً من روسيا وجرى ضمه إلى أوكرانيا في عهد نيكيتا خروتشوف ربما لأن ذلك القائد السوفياتي كان أوكرانياً، والخلاف مع الأطلسي في أوروبا الشرقية هو جزء من القلق الذي يصحب رسم حدود جديدة للنفوذ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
الأزمة السورية هي التجربة الأولى في امتداد الاتحاد الروسي خارج حدوده، وعلى رغم العلاقات الحميمة بين موسكو ودمشق فإن الجيش الروسي لم يحط آلياته وعديده في الساحل السوري إلاّ بعد حوالى أربع سنوات من بدء ثورة سورية تحوّلت، مع التدخّلات، إلى حرب أهلية ثم إقليمية، لتخطو مع الحضورين العسكريين الروسي والأميركي نحو ما يشبه حرباً دولية.
ويلاحظ المخضرمون في مقر الأمم المتحدة في نيويورك أن الأميركيين والروس لم يصلوا إلى هذه الدرجة من التنافر والتوتر حتى في أزمات الحرب الباردة في العهد السوفياتي. وفي هذه الأجواء المشحونة ثمة من يوزّع إشاعات تفيد أن لقاء أصدقاء سورية في باريس ستنجم عنه قرارات سرّية بهجوم عسكري أطلسي لاحتلال سورية، وترافق ذلك مع إعلان موسكو نشر صواريخ «أس 300» في طرطوس، تضاف إلى صواريخ أخرى في قاعدة حميميم، ما يعني استعداداً لمواجهة أي هجوم على الجيش السوري واعتباره هجوماً على الجيش الروسي الحليف. وحملت الأخبار في هذا الإطار خبر وصول زورقي صواريخ روسيين إلى شرق المتوسط تتبعهما حاملة طائرات لتعزيز الاستعدادات لأي حرب محتملة.
ليست طبول الحرب التي تدقّ بل هو فشل المحادثات السياسية الطويلة والبطيئة لوزيري الخارجية سيرغي لافروف وجون كيري، خصوصاً بعد توصّلهما إلى اتفاق لوقف النار والمساعدات الإنسانية لم ينشر كاملاً، كما لم يستكمل الطرفان تشكيل اللجنة المشتركة لمراقبة وقف النار وفقاً للاتفاق.
لم تتحمّل واشنطن ضربات القتل والتدمير المتواصلة في حلب فأوقفت المحادثات مع موسكو، تاركة لصقور البنتاغون أن يتسيّدوا القرار، فهل من مواجهة؟ أم أن البنتاغون لن يضع على مكتب باراك أوباما قرار الحرب ليوقّعه، مكتفياً بوصول «الجبّارين» الأميركي والروسي إلى حافّة الحرب، ربما لمعاودة المحادثات على أسس أكثر وضوحاً، على رغم تعقيدات الوضع السوري، بطرفيه، النظام والمعارضة المسلّحة، ومن يعاونهما.
وإذ نقول «جبارَيْن» تبدو روسيا غير جديرة باللقب، فالرؤية شبه الفاشية لفلاديمير بوتين توصله إلى معارك لا يستطيع إغلاقها، وكل ما في الأمر أنه يرى النفوذ مجرّد سيطرة عسكرية وأمنية، وتلك صفة عالم ثالثية عرفناها في أنظمة استبداد، من بينها عربياً نظاما جمال عبدالناصر وصدّام حسين. أما النفوذ في الرؤية الديموقراطية فيتّخذ أشكالاً ثقافية وعلمية، وبالتحديد احترام الدساتير ودولة القانون الذي يطبّق بالتساوي على المواطنين.
يعيدنا بوتين إلى مراحل الاستبداد، لذلك نراه في أول خروج لروسيا لتأسيس مراكز نفوذ وتأكيد قطبيتها العالمية، يتصرف باستخفاف المستبدّ القوي، فنراه يعقد علاقات متشابكة مع إيران وسورية القريبتين إليه سياسياً، ومع دول أخرى لا تشاركه الموقف السياسي. يوصله سعيه إلى التشابك فلا يستطيع تمييز النهايات من البدايات، ولا إقرار ثوابت تحكم علاقات دولة بدولة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، بل حتى عسكرياً لإنهاء الحرب.
سورية في محرقة مؤكدة حتى مطالع كانون الثاني (يناير) المقبل وإطلالة الرئيس الأميركي الجديد، أو الرئيسة. أما نحن العرب فنستمر في استنهاض مفردات ثقافية تليدة تدفعنا إلى الدم والخراب، وننتهز الأزمات السياسية لتصفية حسابات قديمة أو جديدة، تاركين للأجيال المقبلة عبء البناء، وسيأتي في أعقابهم من يهدمه… وهكذا.