العالم يتغير. الشرق الأوسط في قلب هذا العالم، ومركز التغيير. حاول الرئيس باراك أوباما تجاهل هذا الشرق، فعاد وذكره من سوريا بأهميته وخطورته وخطره على العالم بما فيها الولايات المتحدة الأميركية. تحاول القوى الدولية والإقليمية ألا تغيب لحظة عن كل ما يجري، حتى لا تخسر مقعدها عند التوقيع على الاتفاقات.
في أسبوع واحد، ثلاث قمم: الأولى بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب اردوغان في موسكو. الثانية، قمة باكو الثلاثية بين بوتين وحسن روحاني والهام عليياف. واليوم يلتقي جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني مع نظيره التركي مولود تشاوش أوغلو. كل هذه القمم واللقاءات وما سيستتبعها تُعالج سؤالاً فضفاضاً حول التعاون وتمتين العلاقات الاستراتيجية في ما يشبه مقدمات إنشاء تحالفات واسعة تأخذ في الاعتبار التكامل الاقتصادي والتفاهم السياسي.
سوريا في قلب كل هذه اللقاءات والقمم. مستقبل سوريا، في صلب المباحثات الآنية والمستقبلية. متى عرفت «القطبة السورية» المخفية في التفاهمات عَرف كل طرف موقعه «وحصته» في الاتفاقات النهائية. ما زال على الجميع العمل الجاد والطويل النفس للوصول الى النهاية، كل ذلك يجري على وقع التصعيد العسكري المحتوم. من الآن وحتى تنتهي المفاوضات، تستمر معارك الكرّ والفرّ. من ينتصر اليوم ينهزم غداً والعكس صحيح. في الأساس، ممنوع الانتصار الكامل وممنوع الهزيمة الشاملة. لكن معركة حلب هي أقسى المعارك وأطولها لأن تركيا واردوغان في قلبها. لن تسلم أنقرة حلب لأنه لن تبقى بيدها ورقة تؤكد بها وجودها على طاولة المفاوضات.
ما يحصل من حروب متمددة من حلب الى عدن، ليس الهدف منه حتى الآن تغيير الحدود وإنما تغيير حجم النفوذ. قبل مائة عام رسم اثنان هما سايكس وبيكو حدود البلدان ونفوذ كلٍ من بلديهما فرنسا وانكلترا. اليوم دخلت الدول الإقليمية على مساحة رسم النفوذ. كل واحدة منها تعمل على رفع رصيدها وحدها أو بالشراكة مع القوى الأخرى. تركيا دفعت باتجاه التغيرات الانقلابية، فسارع الآخرون إلى التصعيد لمواجهة التغيرات.
لا شك أن تركيا ما بعد الانقلاب هي غيرها ما قبل الانقلاب. «السلطان» وجد نفسه وحيداً، وحتى لا يندم انقلب على سياسته الخارجية، حتى يأخذ له ولتركيا ويضمن لها وله مواقع تتناسب وحجمها وطموحاته. صالح «القيصر» فلاديمير بوتين وعمل على حماية «خاصرته» الإيرانية وهو يعلم أن الإيرانيين أيضاً بحاجة إليه لحماية إيران في خاصرتيها الضعيفتين في كردستان وبلوشستان الإيرانيتين. وهدد واشنطن بالذهاب بعيداً نحو موسكو وهو يعلم جيداً أنه غير قادر على «الطلاق» لأن زواجه مع واشنطن «كاثوليكي» بينما زواجه مع موسكو سيبقى زواج مصالح.
هذه الحاجة المتبادلة تصوغ العلاقات التركية الإيرانية، رغم عمق الخلاف حول سوريا. في لحظة التوقيعات، ستبقى المصالح القومية العليا لطهران وأنقرة، فوق الخلاف حول مستقبل بشار الأسد. الضمانات المتبادلة المتفاهم عليها دولياً تعوض هذه الخسارة أو تلك. لأنه إذا خسرت إيران الأسد، فإن تركيا مضطرة لتقديم تنازل يتناسب مع التضحية الإيرانية ودائماً بالتفاهم مع «القيصر».
في غياب الموقف الأميركي من الأسد ومن إيران، والاكتفاء ببعض التصريحات المتناقضة بين يوم ويوم. وبعد التسليم بالحل الروسي حول السلاح الكيماوي الأسدي، تمدد فلاديمير بوتين في سوريا وأصبح سيّد القطع والوصل، والربط والحسم في سوريا وعبرها على كامل القرار في الشرق الأوسط. بوتين حالياً هو «قيصر» الشرق الأوسط. وهو سيستمر في ذلك وسيعمل على استثمار كل لحظة في ظل الغياب الأميركي. بلا تردد سيستخدم «القيصر» كل أوراقه وقوته قبل نهاية العام للتوصل الى حل يرضيه في سوريا يثبّت «أقدامه» و»نفوذه» في الشرق الأوسط، مع أخذه في الاعتبار مصالح حليفته إيران، وتفاهماته المتدرجة مع تركيا. أما إذ لم ينجح في هذا، فإنه مضطر لإعادة حساباته مع الرئيس الأميركي الجديد.
واشنطن في العشرين من كانون الثاني من العام القادم، ستكون حكماً غير واشنطن «الأوبامية». هيلاري كلينتون متى انتخبت رئيسة للولايات المتحدة الأميركية، لن تنقلب على السياسة الأوبامية» لتنفيذ سياسة «بوشية»، لكن على الأقل ستعمل على ترك بصماتها على السياسة الأميركية خصوصاً في الملف السوري الذي تعرف تفاصيله غيباً. أما إذا انتخب دونالد ترامب فإن لكل حادث حديث.
مرة أخرى، حتى ولو جرى إغراء «حزب الله» بأنه أصبح «حزباً إقليمياً«، فإنه لن يجلس إلى طاولة المفاوضات. يكفي أن واشنطن لن تقبل به لذلك سيبقى ملتزماً بإيران التي مهما أصرّت على أخذ ضمانات مستقبلية للحزب، فإن لها حسابات تتجاوزه لأنها تتفاوض على ما يتعلق بأمنها القومي.