كأن فلاديمير بوتين آخر، كان حاضراً في مؤتمر الطاقة العالمي في اسطنبول امس: رجل دولة يعتمد مقاربة واقعية تأخذ في اعتبارها قانون المصالح الذي يتحكم بالقرارات الكبيرة والصغيرة لأي دولة (غير مارقة ولا ساقطة!) وتُبنى على اسسه وشروطه ومتطلباته، العلاقات والخيارات الاستراتيجية الضامنة في خلاصتها، الأمن القومي بكل أبعاده (الاقتصادية والسيادية والسياسية والأمنية) لأي كيان ونظام في هذا العالم.
وتلك صورة فيها نشاز أكيد! حيث إن بوتين «الآخر» ليس بعيداً عن إسطنبول! بل هو تحديداً في الشمال السوري، وفي العاصمة الثانية لذلك البلد المنكوب، يقدم أداءً غير مفهوم وشبيهاً بالعبث أو بلعب الهواة والقاصرين.. ويعرّض بلاده وجوارها وعلاقاتها ومصالحها، لمخاطر لا تصدّق.. وكأنه يجرب الوصفة الإيرانية القائمة على ازدواجية سياسية تشبه الشيزوفرانيا عند الأفراد: يريد صون مصالح دولته مع العالم لكن بشروطه هو التي لا تقيم وزناً لقيم هذا العالم ولا لاستقراره! ولا للأعراف والقوانين التي تحكم العلاقات بين الدول، ولا لشروط السوق وبديهيات التبادل المالي والتجاري والتقني وما يتفرع عنها بالتفصيل والإجمال!
بل الواقع، هو أن بوتين يعتمد الوصفة الإيرانية ولا يجرّبها فقط: يأتي مسلحاً وبثياب المحارب إلى سوق المال والطاقة! وبلطجياً إلى منتديات السياسة والديبلوماسية! يريد «الانفتاح» على الخارج ويحتاج إلى ذلك الانفتاح، لكن انطلاقاً من مشروع إحيائي مصاب بفوبيا إزاء ذلك الخارج، أي مركوباً بعقدتين متحكّمتين بأدائه: واحدة، عصابية تجعله مقتنعاً بأن كُل العالم ضده!! وثانية، منهجية تجعله طموحاً فوق إمكاناته وقدراته! وصاحب مشروع لا يتقدم شبراً واحداً إذا لم يملأه بالدم والدمار!
بوتين الأول في اسطنبول، يرفض نظرية انتهاء عصر النفط والغاز. ويتحدث انطلاقاً من كون بلاده تمتلك مخزونات هائلة من المادتين وغيرهما من المواد الأولية… وبوتين الثاني في حلب، وقبلها في أوكرانيا، يتصرف مثل رجل عصابة في شارع صغير في مدينة هامشية! يقاتل، بالمعنى الحرفي، حيث يجب أن لا يفعل! ويستبدل عصبة بشار الأسد والمشروع الفتنوي الإيراني، بعموم أهل المنطقة الممتدة من تركيا إلى المغرب! ومن الجمهوريات الاسلامية في الاتحاد السوفياتي الراحل، الى ضفاف البحر المتوسط! بل تراه يلغّم بيديه مشاريع خطوط نقل الطاقة عبر تركيا لأنه رأى أن القرم أهم له من كل أوروبا! ثم يذهب في الغلوّ إلى حد إحراج الولايات المتحدة لإخراجها! وهو في الإجمال، زعيم دولة لا يتعدى حجم اقتصادها الكلي، حجم اقتصاد دولة أوروبية واحدة مثل اسبانيا!
والغريب في أدائه هو كونه، مثل أصحاب القرار الإيراني، مقبل على عالم حديث بأدوات قديمة. مأخوذ بالماضي أكثر من الحاضر! وبالتاريخ أكثر من الجغرافيا. يبني سياسته وكأن الاتحاد السوفياتي لا يزال قائماً! ويتجاهل أن كارل ماركس طلب اللجوء السياسي والفكري عند الغربيين! وان دول المعسكر الاشتراكي وقفت بالصف لتقديم طلب انتسابها إلى العالم الحر! وأن مجتمعاً قبلياً مثل المجتمع الأفغاني، لا حضور فيه لأي معطى حداثي، حطم «الجيش الأحمر» وأرقى أسلحته وأكثرها حداثة! وأكمل زعزعة امبراطورية «العمال والفلاحين» وصولاً إلى اندثارها!
حرٌ فلاديمير بوتين في إعادة تلميع سيرة ستالين وصورته، أو «استلهام» أداء «الولي الفقيه» في إيران، وأن يلبس قناعين ويتحدث بلسانين، لكن كيف له أن لا يخجل بما يفعله في سوريا عموماً وفي حلب خصوصاً! حيث يحاول أن يبني من أكوام جثث شهدائها، الأطفال والنساء والرجال العزل، طريقاً للعودة إلى ماضٍ مضى! وسُلّماً «للصعود» إلى هاوية مجد زائف ورميم.