يُعقد أواخر الشهر الجاري مؤتمرُ سوتشي المخصَّص لإنجاز التسوية السورية، وسط إعلان بعض أطياف المعارضة السورية تخوّفَه من أنّ الهدف الحقيقي لهذا المؤتمر هو تجاوُز ما اتّفق حوله في جنيف. لذلك سارعَت موسكو على لسان عددٍ من مسؤوليها الى التأكيد أنّ الهدف هو تسريع التسوية السورية لا خلقَ بديل عن مفاوضات جنيف.
لكنّ بعض أطياف هذه المعارضة والتي أعلنت مقاطعتها لمؤتمر سوتشي، أشارت إلى أنّ الهدف هو إعادة إنتاج نظام بشار الأسد وترسيخ الوجود الروسي في سوريا.
في الواقع لا يزال الغموض يُحيط بجدول أعمال المؤتمر، ولم تُفصح الدول الراعية للمؤتمر، أي روسيا وتركيا وإيران إلّا عن القليل من النقاط. وربما كان كلام المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرينتيف الأكثر وضوحاً حين قال إن لا مكان في سوتشي لمَن يُطالب بالرّحيل الفوري للأسد.
لكنّ ثمَّة هدفاً أساسيّاً يَسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تحقيقه من مؤتمر سوتشي، وهو تكريس دور روسيا المِحوَري في سوريا والمنطقة.
ذلك أنّ بوتين الذي يتقدَّم بثبات الى الانتخابات الرئاسية يسعى إلى توظيف الورقة السورية والمكاسب الروسية في حملاته الإنتخابية.
ففيما كان معارضوه يُركّزون هجومهم بداية على أساس أنّ التورّط الروسي في سوريا سيؤدّي الى غرقها في الوحول وتكرار مأساة أفغانستان، فإنّ الرئيس الروسي والذي كان أعلن سَحبَ قسم من قوّاته من سوريا، يَخوض حملته الإنتخابية مرتكزاً على إنجازات تدخّله في سوريا وفرض دورٍ محوريّ لبلاده في الشرق الأوسط بعدما شكّلت أوكرانيا هزيمةً قاسية.
لكن بدا أنّ هنالك مَن يَسعى إلى إجهاض «انتصار» بوتين في سوريا، وذلك على مستويَين:
الأوّل، في الداخل الروسي، حيث تعاظَم خطر العمليّات الإرهابية، وهو ما يَعني في الترجمة السياسيّة والانعكاسات الإنتخابية أنّ التدخّل في سوريا لم يَحمِ الأمن الروسي لا بل على العكس، فهو زاد من خطرها. وهذا ما جعل بوتين يأمر الشرطة الروسية صراحة بأن تكون قاسيةً في ردعها للعمليات الإرهابيّة: «اقتلوا الإرهابيّين فوراً ولا تلقوا القبض عليهم»، كما نقلت عنه وسائل إعلام روسية.
المستوى الثاني، يتعلّق بالاستهداف الجريء لقاعدة حميميم الجوّية الروسيّة، والذي أدّى الى خسائر كبيرة، والأهمّ أنّ أحداً لم يتبنّه، ولو أنّ تلميحات روسية صدَرت عن وجود بصمات أميركيّة. وهذا الاستهداف سيُعيد إشعال خطاب المعارضين للرئيس الروسي حول خطر الغرق في الوحول السورية مستقبلاً كما حصل في أفغانستان.
ولم يكن على سبيل المصادفة أن تُحذّرَ موسكو، واشنطن، من أيّ تدخّل في الإنتخابات الروسية. لذلك يسعى بوتين إلى تحقيق إنجازات سياسية من خلال مؤتمر سوتشي يستطيع توظيفها في معركته الإنتخابية الرئاسية.
لكنّ حصرَ مؤتمر سوتشي بهذه الزاوية فقط لا يبدو واقعياً ولا يعكس الصورة الحقيقيّة. إذ مهَّد الرئيس الروسي للمؤتمر بتأكيد التزامِه للولايات المتحدة الأميركية، كما لإسرائيل، أنّ إيران وحلفاءَها، والمقصود هنا «حزب الله»، لن يتجاوَزوا مسافة الأربعين كيلومتراً المتّفق عليها بين موسكو وواشنطن وتل أبيب، والفاصلة عن حدود وقف إطلاق النار بعد حرب 1973.
ولذلك ربما، وفي إطار اختبار النوايا والميدان، تُكثّف الطائرات الإسرائيلية غاراتِها على مواقع ومخازن تابعة لإيران و«حزب الله» في سوريا.
وتكشف مصادر ديبلوماسية مطّلعة عن مفاوضات غير معلنة تُجرى بين الولايات المتحدة الأميركيّة وروسيا والأردن بهدف إعادة فتح معبر نصيب.
وتتضمَّن المفاوضات رفع العلم السوري على المعبر، ووَضع عناصر سورية منتقاة بشكل دقيق، وتأمين الطريق الدولي بين دمشق والحدود، على أن يُشكّل ذلك مقدّمةً لإنجاز مصالحة وإعادة اللاجئين السوريّين من الأردن. كذلك تتطرَّق هذه المفاوضات الى إيجاد تسوية لمنطقة درعا.
لكنّ الأهمّ ما أصبح المسؤولون الروس مقتنعين به حول الصيغة السياسية لسوريا، ذلك أنّ موسكو تداولت مع المسؤولين الأميركيّين ضرورة قيام نظام لامركزي يُتيح للأكراد إقامة نوع من أنواع الحكم الذاتي كتعويض عن الدور الذي لعبَه هؤلاء في الحرب، إلى جانب الجيش الأميركي كما الى جانب روسيا، وبعدما كان الأكراد يطمحون لإقامة دولة مستقلة. كذلك، فإنّ نظام الحكم اللامركزي يُعطي تعويضاً للمجموعات المعارضة التي هي خارج التنظيمات المصنّفة إرهابيّة.
وتُعوّل موسكو على دور غربي في خطة إعادة إعمار سوريا، ذلك أنّ كلفة ورشة إعادة الإعمار تتجاوَز الـ 250 مليار دولار، والتي كان قد حدَّدها البنك الدولي وفق دراسات أجراها خبراء ومتخصِّصون، والتي خلصت الى أنّ الحدّ الأدنى الضروري لورشة إعادة الإعمار هو مبلغ 250 مليار دولار.
ووفق الخطط الموضوعة، ستُبادر الدول الغربيّة بعشر هذا المبلغ، وفي إطار مرحلة تجريبيّة قد تطول في حال تعقّدت العملية السياسية وتأخّر الاتفاق على الصيغة النهائية للتسوية السياسيّة.
وتبدو واشنطن مستعجلةً على ترتيب هذا الملف خصوصاً مع دخول الصين إلى ملفّ إعادة الإعمار، ولكن من زاوية التزام البنى التحتية. فالشركات الصينيّة باشرت منذ مدة التزامَ رفع الردم وأخذ الحديد والمواد الأخرى القابلة لإعادة التدوير.
كذلك، فإنّ الشركات الروسية تتقدَّم في هذا الإطار، ولو ببطء، مع سعي موسكو إلى الإمساك بآبار النفط وحقول الغاز.
وبالتأكيد تريد واشنطن الحدّ من الدخول الصيني، خصوصاً أنّ حرباً اقتصادية باردة تدور بين الجبّارين في جنوب آسيا، حيث ينمو النشاط التجاري الصيني، وتقوم بكين في بناء الموانئ في باكستان وبنغلادش وميانمار، إضافة إلى التخطيط لبناء خطّ حديدي في نيبال. وهذا ما دفع بواشنطن إلى وقف مساعداتها لباكستان.
أمّا شمالاً، فإنّ أوروبا تبدو مهتمّة بفتح خط تجاري مع الصين من خلال روسيا، وهو ما باشر به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وبعيداً من ذلك، لا شك في أنّ عملية إعادة اعمار سوريا ستؤدّي الى انتعاش اقتصاد الدول المحيطة، مثل لبنان والعراق وإيران وتركيا، وبنسبة أقلّ الأردن.
ويعتقد الخبراء الروس أنّ أصحاب الرساميل السوريّين سيستثمرون في قطاع البناء أكثر منه في القطاع الصناعي الذي يتطلّب العمل فيه مدة أطول وجهوداً أكبر. علماً أنّ كلّ ذلك مرتبط بالسّرعة التي سيجري فيها إنجاز تحرير محافظة إدلب والجيوب المحيطة بدمشق والرستن.
ولا حاجة للقول إنّ هذا الواقع سيَستفيد منه اقتصاد لبنان عندما يَحين أوانه.
لكن قبل ذلك، على الدولة اللبنانية أن تكون جاهزة للاستفادة من هذه الفرصة، والأهمّ تأمين الاستقرار السياسي المطلوب لترتيب إعادة النازحين السوريّين، تماماً كما يحصل مع الأردن وترتيب البنية التحتية الاقتصادية والتخفيف من الأعباء والمشكلات الموجودة.