ها هو التاريخ يعيد فصوله في مصر ولو بطريقة منقحة، يخرج الاميركيون بالخيبة ويدخل الروس بما يشبه التحدي، فلقد استدار الزمن 180 درجة منذ أقدم أنور السادات على إخراج الخبراء السوفيات من مصر، ومن ثم إدخال مصر في المحور الاميركي الخالص الذي سينتهي بزيارة تل ابيب واتفاق “كمب ديفيد”.
الاتفاق النووي الذي وقعته مصر وشركة “روز أتوم” الروسية لإقامة ثماني محطات نووية على ثماني مراحل، تنتهي سنة 2022 وتوفر لمصر طاقة كهربائية بقدرة 44800 ميغاوات، وبكلفة 20 مليار دولار تدفعها موسكو ثم تسددها مصر على 35 سنة، يعيد وقائع المفاوضات المصرية مع أميركا وبريطانيا التي مهدت لمشروع بناء السد العالي عام 1955 وانتهت يومها بالفشل وفتحت ثغرة جيوسياسية إقليمية كبرى، اندفعت موسكو من خلالها الى المنطقة من البوابة المصرية، عبر المساعدة في تمويل السد وتزويد مصر السلاح، وهي البوابة التي أعاد السادات اقفالها مما أدى الى وقف موسكو إنشاء مفاعل أنشاص عام 1961.
وإذا كان الخلاف المعلن عام 1955 بين جمال عبد الناصر والاميركيين دار حول الشروط الخانقة التي وضعتها واشنطن ولندن والبنك الدولي لتمويل مشروع السد العالي، والتي وصلت الى حد المطالبة إما بوضع الاقتصاد المصري تحت الرقابة الدولية، وإما الى القبول بمصالحة اسرائيل، فان الخلاف الضمني بين القاهرة وواشنطن هذه الأيام، يتمحور على رهان الادارة الاميركية على مشروع “أخونة المنطقة”، الذي أحبطته وقصفت عمره ثورة الشعب المصري على حكم “الاخوان المسلمين” ومحمد مرسي.
ليس خافياً على أحد ان السفيرة الاميركية في القاهرة آنذاك آن باترسون ظلّت حتى اللحظة الأخيرة تحرّض مرسي وإخوانه على الاستمرار في الحكم ولو من رابعة العدوية، في حين واظب البيت الأبيض على اعتبار ثورة الشعب المصري ضد مرسي و”الإخوان” انقلاباً عسكرياً على شرعية منتخبة، لا بل اتخذت واشنطن اجراءات عقابية كوقف المساعدات والتسليح عن مصر.
لم يكن هذا خافياً على الكرملين، ولهذا عندما زار محمد مرسي موسكو في 20 نيسان 2013، وطلب المساعدة في بناء “محطة الضبعة” النووية، لم يتلق أي جواب أو وعد روسي، ولهذا كان من الطبيعي ان تشكل زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لموسكو والاتفاق على عقود تسليح للجيش المصري، بداية مرحلة جديدة لا يوازي فيها عودة العلاقات الدافئة بين البلدين إلا البرودة المتزايدة في العلاقات المصرية – الأميركية التي يحاول باراك أوباما الآن استنهاضها!
مشروع “محطة الضبعة” النووي الكبير الذي وقعته مصر مع الروس لم يكن الأميركيون بالتأكيد ليقبلوا بتمويله، وقصة وراثة موسكو واشنطن في السد العالي تتكرر الآن في النوويات المصرية!