لعلّ اغرب تصريح صدر عن الرئيس فلاديمير بوتين، بعد اسقاط تركيا القاذفة الروسية، ذلك الذي يؤكد فيه ان «جيش بشّار الأسد» شريك في الحرب على «داعش». ربّما كان التفسير الوحيد لمثل هذا الكلام، الذي يعكس رغبة في الهرب من الواقع، اصرار الرئيس الروسي في التصعيد مع تركيا في ظل حاجته الداخلية الى ذلك.
ما يمكن ان يدعوه الى مثل هذا التصعيد شعور بالإهانة بعد اسقاط تركيا الطائرة ورفض رجب طيب اردوغان تقديم اعتذار مباشر. اكتفى الرئيس التركي بشبه اعتذار بقوله انّ الجهات التركية لم تكن تعرف ان الطائرة روسية، ولو تعرّفت الى هويتها، لكانت تعاملت معها بطريقة مختلفة.
ستشهد العلاقات التركية ـ الروسية مزيدا من التجاذب في الأسابيع المقبلة. المهمّ ان هناك حقائق لا يمكن تجاهلها، حتّى من جانب شخص مثل فلاديمير بوتين يمتلك بلده ترسانة نووية ضخمة وكميات كبيرة من الصواريخ، بينها ما هو عابر للقارات. هل كميّة الأسلحة التي تمتلكها روسيا تغنيها عن التعامل مع الحقائق؟
يُفترض بالرئيس الروسي ان يستعيد شيئا فشيئا هدوءه، خصوصا انّه يعرف قبل غيره ان النظام السوري سقط وانّ بشّار الأسد صار جزءا من الماضي. الشعب السوري قال كلمته وليس كما يدّعي وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي يصرّ على ان مصير الأسد الإبن «يقرّره السوريون».
نعم، هناك حاجة الى «حرب برّية»، على حد قول بوتين، من اجل هزيمة «داعش» واقتلاعه من جذوره. بالطبع، الحرب البرّية ليست كافية. ثمّة حاجة بشكل خاص الى ازالة الحواضن المتوافرة لـ»داعش»، على رأسها النظام السوري.
يمكن الإستعانة بالجيش العربي السوري في الحرب على «داعش»، بعد سقوط النظام السوري وطيّ صفحته نهائيا. سيكون في الإمكان عندئذ التعاطي مع جيش تابع لدولة تحترم نفسها وليس مع جيش في خدمة نظام امتهن الإبتزاز وممارسة الإرهاب منذ اليوم الأوّل لوصول حافظ الأسد الى السلطة واحتكاره لها في العام 1970.
قبل سقوط النظام رسميا وخروج بشّار الأسد من دمشق، لا مجال لمشاركة «جيش الأسد» في ايّ حرب من ايّ نوع كان في ايّ شكل من اشكال الإرهاب.
الأكيد ان رجب طيب اردوغان ليس قدّيسا. ارتكب الرئيس التركي اخطاء كثيرة بسبب سياسته الهوجاء، على الصعيد الإقليمي. هذا عائد اساسا الى انتمائه الى تنظيم الإخوان المسلمين الذي خرجت منه كل التنظيمات الإرهابية والمتطرّفة، بدءا بـ»القاعدة» وصولا الى «داعش». هذا التنظيم هو الأب الروحي للإرهاب والتطرّف. لكنّه لا يمكن في ايّ شكل تجاهل النظام السوري ودوره في استخدام الإرهاب وتوظيفه خدمة لسياسة تصبّ في تكريس سوريا مزرعة للعائلة الحاكمة ولطائفة صغيرة تعتقد ان في استطاعتها التحكّم بمصير البلد وشعبه وحتّى بدول الجوار، على رأسها لبنان.
من مصلحة تركيا وروسيا العودة الى لغة المنطق. يقول المنطق، المستند الى الحقائق، انّ تركيا لم تلعب الدور البناء الذي كان يفترض ان تلعبه منذ اندلاع الثورة السورية، وذلك على الرغم من انّه لا يمكن الإستخفاف بتضحياتها من اجل استيعاب اللاجئين السوريين. فشلت تركيا، لاسباب مختلفة بينها الموقف الاميركي، في اقامة «منطقة آمنة» تسمح بالحد من هجرة السوريين الى اراضيها، ومنها الى دول اوروبا.
في المقابل، راهنت روسيا على النظام السوري وعلى انتصاره على شعبه. خاضت كلّ حروب النظام على الشعب السوري الى جانب ايران وميليشياتها المذهبية. لكنّ روسيا اكتشفت اخيرا انّ بقاء النظام يستدعي تدخّلها العسكري المباشر، وذلك كي يبقى بشّار الأسد في السلطة لبعض الوقت بما يسمح لها بالتفاوض على رأسه.
انّه منطق اللامنطق الروسي. ينمّ منطق اللامنطق الذي يتبعه فلاديمير بوتين عن جهل في طبيعة النظام السوري الذي باع علاقته التاريخية مع موسكو بالجملة والمفرّق كلّما دعت الحاجة الى ذلك. هذا النظام قتل كمال جنبلاط وحارب ياسر عرفات وورّطه في لبنان كي تدفن قضيّته معه وعمل كلّ شيء من اجل ان يصبح الإرهاب تجارة يمارسها بشكل يومي، خصوصا في علاقته مع الدول العربية الأخرى، على رأسها دول الخليج العربي.
اذا كان بوتين لا يريد ان يتذكّر ان اميركا سمحت بدخول الجيش السوري الى لبنان في اواخر 1976، بعد صدور الضوء الأخضر الإسرائيلي، فقد يكون من الأسهل عليه ان يعود الى الماضي القريب. يستطيع مثلا ان يفتح ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في تاريخ لم يمرّ عليه الزمن. يستطيع ايضا العودة الى ملفّ مخيّم نهر البارد، اي الى رغبة النظام السوري باقامة «امارة اسلامية» في شمال لبنان في العام 2007، وذلك في سياق المحاولات اليائسة التي بذلها من اجل التغطية على جريمة اغتيال رفيق الحريري والجرائم الأخرى التي تلتها، بما في ذلك اغتيال مجموعة من الشرفاء اللبنانيين، آخرهم الدكتور محمّد شطح.
من هو شاكر العبسي الذي كان وراء «فتح الإسلام»، وهو تنظيم يشبه «داعش» الى حدّ كبير؟ من اين خرج شاكر العبسي الذي وصل فجأة الى مخيّم نهر البارد؟ الم يكن في السجون السورية قبل هبوطه المفاجئ في المخيم الفلسطيني القريب من طرابلس؟
لا داعي الى فتح عشرات الملفّات التي تربط النظام السوري بكلّ ما له علاقة بالإرهاب وصولا الى تعاطيه المباشر مع «داعش» في سياق حربه على الشعب السوري.
مرّة اخرى، هناك مآخذ كثيرة على رجب طيب اردوغان وسياسته الإخوانية التي تصب في دعم كلّ ما له علاقة بالتطرّف في فلسطين ومصر وليبيا وتونس. لكنّ ما يصعب فهمه تلك العلاقة بين روسيا والنظام السوري الذي لم يكن لـ»داعش» ان ينمو ويتمدّد ويتوسّع لو لم يحصل على موارد من دونه.
يظل الطريق اقصر للقضاء على «داعش» التخلّص من النظام السوري. فبشّار الأسد و»داعش» وجهان لعملة واحدة. كلّ ما تبقى تفاصيل واصرار على الدوران في حلقة مغلقة يستفيد منها بوتين واردوغان في اطار رغبتهما في الظهور كبطلين وطنيين، كلّ منهما في بلده. الروس يبحثون عن بطل، كذلك الاتراك. تبدو المشكلة الرئيسية لدى بوتين في انّه تلقّى صفعة تركية تسيء الى صورته لدى الروس لا اكثر. ربّما هي اكبر مشكلة يواجهها الآن.
الى اشعار آخر، لا رغبة جدّية لدى اي طرف في القضاء نهائيا على «داعش». الخوف كلّ الخوف ان يكون الشعب السوري من يدفع ثمن بطولات وهمية لم تؤد الى اي نتائج على ارض الواقع. لا الروسي قادر على الإنتهاء من «داعش» ولا التركي قادر على اقامة «المنطقة الآمنة». للمرّة الألف: هل من يريد الخلاص من «داعش»؟