هل وصلت صرخات ميليشيا الأسد في سهل الغاب وهم يستغيثون من ينجدهم عند أخر خطوط الدفاع عن الساحل، بل ربما امتزجت بصرخات عناصر حزب الله في الزبداني وهم يتحطمون أمام حلم تسييج سوريا المفيدة، بكل الأحوال إستجابة بوتين لا يمكن فصلها عن زيارة قاسم سليماني الذي ذهب في العتمة إلى موسكو متوسلاً النجدة السريعة من الكرملين قبل أن ينهار الهيكل الأسدي وتتحطم بإنهياره أحلام الروس والإيرانيين، وكان بشار الأسد نفسه إقترح تعزيز الوجود الروسي في سوريا لتكون بوابة لإستعادة الحضور العالمي الروسي عبر الساحة السورية.
حملت هذه الإغراءات التكتيكية بوتين على جناح السرعة للحضور إلى شواطئ اللاذقية وطرطوس، ولكي يضمن سلامة تصرفه وإنسجامه مع المصالح الروسية العامة، طلب بوتين من إستخباراته تقديراً سياسياً وأمنياً حتى يجري على ضوءه ترتيباته وإجراءاته اللازمة، ولأن واضعي التقدير يعرفون مدى رغبة بوتين في الإنخراط في الصراع السوري ويدركون أنه يطلب منهم تأييد هذا الموقف بوثيقة رسمية صادرة عن جهات رديفة لصنع القرار فقد صاغوا هواجسه ورغباته ضمن ذلك التقدير:
– أولاً: كسر شوكة الحركات الإسلامية ودفنها في سوريا ما يمنع بالتالي تمددها وخطر إنتشارها في القوقاز، وهذا ما يجعل من الدفاع عن معقل الأسد دفاعاً عن موسكو وضواحيها، وبالتالي فإن الذهاب إلى سوريا قرار إستراتيجي صحيح بالمطلق
– ثانياً: تعد سوريا ساحة سهلة يمكن العمل بها بدون خطوط حمر، اولاً لكثرة أطراف الصراع وتعدد إنتماءاتهم وتوجهاتهم الدينية، وثانياً، لسقوط الخطوط الحمر أصلاً منذ حادثة الكيماوي الشهيرة، وثالثاً، لإنشداد العالم الى قضية اللاجئين التي غطّت على أحداث الداخل السوري وحوّلتها إلى تفصيل صغير، وأهمية هذه المسألة تتأتى من كونها تمنح روسيا هامشاً أكبر في الحركة والمناورة وتتيح لها إستخدام قوتها الصلبة إلى أبعد حدود.
ثالثا: لن يكون للإنخراط الروسي أي ردود فعل دولية ذات أهمية، ردود الغرب بشقيه الأوروبي والأميركي ضعيفة ولا يمكن تطويرها وخاصة وإذا أخذت العملية طابعاً تدرجيا بحيث يكون الإنخراط على مراحل، ومن الممكن إدماجه في سياق جهود الحرب الكونية على الإرهاب، وفي حالة الحرج الزائد يمكن إشهار عنوان أكثر جاذبية وإحراجاً للاطراف الدولية وهو حماية الأقليات التي باتت، للمصادفة، تتركز ضمن القوس الذي تنضوي بداخله الحركة الروسية في الجغرافيا السورية.
رابعاً: ودائماً سيجري تضليل هذا الإنخراط تحت إطار تقديم المساعدة لحكومة شرعية تربطها إتفاقيات دولية معترف بها بالقانون الدولي في مواجهة جماعات متمردة لا شرعية وغالبيتها موضوع على قوائم الإرهاب الدولية.
بالطبع هذه الوصفة تناسب التشخيص الروسي المزمن للأزمة السورية، كما تأتي ضمن سياق طبيعي للسلوك الروسي خلال السنوات الماضية، إذ لم تنفك موسكو عن تقديم اللازم والضروري لإدامة إشتغال منظومة الأسد في الصراع وكانت تقدم له في كل مرحلة ما يناسب طبيعتها وظروفها وما يؤمن إستمرار تفوقه في معادلة الصراع، وحتى سلوك روسيا اليوم يأتي متناسباً مع تطورات الاحداث، ويمكن أن نطلق عليه الخطة « بـ« أو البديل في حال تغيرت موازين القوى بشكل كبير لغير مصلحة الأسد وإيران في سورية، حصل ذلك بعد عجز الألة الإيرانية عن إضافة أي جديد نوعي في حماية نفوذ الأسد، وبعد تحطم أغلب الأنساق الدفاعية للأسد نفسه حول مناطقه الحيوية، وبعد إنحسار فعالية المساعدات الأمنية والعسكرية الروسية في نمطها السابق.
لا شك أن بوتين يهبط على الأرض السورية محمّلاً بحزمة من الرهانات عن قدرته على إحداث تغيير إستراتيجي خطير يمكن إستثماره والبناء عليه بما يجعل روسيا طرفاً مقرراً في أي ترتيبات قادمة في المنطقة، وعلى رأسها صياغة النظام الإقليمي الشرق الأوسطي برمته، والذي ستكون عملية صياغته مدخلاً لصياغة النظام الدولي برمته بما يضمن إعادة تفعيل دور روسيا، وبذلك تكون خطوّة بوتين قد جاءت في وقتها المناسب ومن دون أكلاف كبيرة وهي حسب هذا التقدير ستكون ضربة معلم حقيقية.
لكن حسابات الواقع تأتي مغايرة دائما للحسابات النظرية، وحتى لو كان هامش الخطأ بسيط فإن أكلافه ستكون مؤثرة بدرجة عميقة على مستقبل الدور الروسي وعلى أمن وإستقرار روسيا نفسها، وكأن الأولى بمراكز صنع التقدير الروسي التنبه للأخطار قبل الفرص، لأن الأخطار حقائق متجسدة في تكوينات ومنظومات وميليشيات مقاتلة فيما الفرص تقع كلها في إطار الرهانات التي قد يتحقق بعضها ولا يتحقق الكثير منها وعندها لن يفيد كثيراً قول «لو كنت أعرف».
وبتقدير بسيط، هبوط بوتين على الأرض السورية سيجعله بنظر الشعوب العربية وحتى جزء من شعوب العالم شريك علني في عملية التفريغ الديموغرافي والتطهير الطائفي الحاصلة في سورية، لا شك أنه سيتورط بهذه القضية أراد ذلك أم لم يرد لأن عملية تثبيت الأسد تمر عبر هذه البوابة وتتخذ هذه المنهجية وبوتين لن يخلق قواعد جديدة للعبة لكنه سيستمر ضمن النسق الذي تسير به ومهمته ستنحصر في إطار دعم خيوط هذه اللعبة وليس إختراع أنساق جديدة، ولا شك أن هذا الأمر سيشكل دينامية للصراع وسيجد بوتين نفسه متورطاً بها ليس في اللاذقية بل في القوقاز نفسها، وتلك عملية قد لا تلحظها الحسابات النظرية بل تصنعها الوقائع العملانية.
عندما أراد بوتين الطيران حلّق في حقل الخراب السوري، وتحت تأثير نصائح جنرالاته وإغراء قاسم سليماني له، راهن أنه سيتمكن من فرد أجنحته على الشرق الأوسط، وبعد أن ينجز بناء أعشاشه هناك سيطير في سماء العالم، فهل ستتمكن أسراب الروس التي وصلت إلى اللاذقية من العودة إلى سماء موسكو؟.