Site icon IMLebanon

بوتين ـ خامنئي ـ الأسد: الانتصار المطلوب شمالاً

ما خفي

قبل نحو 4 سنوات، وفي خلال تقليد الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف جائزة بوشكين الى الأديب السوري علي عقلة عرسان، أخذ ميدفيديف السفير السوري في موسكو د. رياض حداد وقال له: «أرجو أن تنقل تحياتي الحارة الى الرئيس بشار الأسد وإلى سوريا وشعبها وتقول له إننا مع سوريا ولن نتخلى عنها». وتمنى تسريع وتيرة الإصلاح لتخفيف الضغوط الغربية عن موسكو.

آنذاك، كان ميدفيديف وبعده الرئيس فلاديمير بوتين يتجنبان الإعلان عن أي اتصالات مباشرة مع الرئيس بشار الأسد تجنباً للإحراج، ولعدم اليقين الروسي والإيراني بقدرة الأسد على الصمود .

اليوم تغير المشهد. صار الوزير وليد المعلم قادراً على الحديث عن علاقات «استراتيجية غير مسبوقة». وها هو يهدد السعوديين بإعادتهم بتوابيت خشبية لو دخلوا عسكرياً الى سوريا.

لم يفصح بوتين والأسد سابقاً عن مستوى التعاون. لكن التحول المعلن، ظهر مع زيارة كبيرة الأهمية قام بها عام 2014 رجل السلاح والصفقات العسكرية نائب رئيس الحكومة الروسية ديمتري روغوزين. وصفته آنذاك مجلة «فوربس» الأميركية بـ «زعيم صقور السياسة الخارجية الروسية». اتهمته واشنطن بأنه المسؤول عن اختراق سيادة الأراضي الأوكرانية. ها هو نفسه اليوم يكشف عن إرسال طائرة سوخوي «سو 35 أس» مهدداً (تركيا طبعاً من دون أن يسميها) من خطورة الاقتراب منها. مجلة «شتيرن» الألمانية وصفت هذه المقاتلة بأنها «الأكثر خطورة». سيكون دورها التقني العالي والدقيق تأمين تغطية واسعة لمقاتلات «سوخوي» الأخرى. ويقال إنها المرة الأولى التي توضع في الخدمة.

حين التقى روغوزين الأسد كانت أميركا قد قررت فتح المستودعات التركية والسعودية والقطرية للمسلحين. قال الضيف الروسي: «نحن جاهزون للدعم بكل شيء وسنتدخل الى جانبكم لو احتجتمونا». وأعلنت الخارجية الروسية دعمها للانتخابات الرئاسية. كانت الرسالة واضحة.

وبعد نحو عام زار الأسد موسكو للاتفاق على المرحلتين العسكرية والسياسية المقبلتين، خلافاً لما قيل عن أن في الأمر استدعاء لإنهاء حكم الأسد.

هاجس جريمة الأطلسي وكذبه في ليبيا حاضر في ذهن بوتين. قال إنه لن يسمح بتكراره في سوريا. هو نجح فعلاً في منعه حتى الآن. استخدم الفيتو 3 مرات مع الصين لمصلحة الأسد. لكنه في الوقت نفسه، هو الذي سحب عملياً «السلاح الكيماوي» من سوريا فدغدغ إسرائيل التي وحدها تستطيع ضرب صواريخ المقاومة ورجالها على الأرض السورية بالرغم من السوخوي. لعله دغدغ أيضاً دولاً تعتقد أن وجود روسيا في سوريا سيخفف الحضور الإيراني.

لا داعي للتذكير بأسباب هذا التحالف الاستراتيجي بين الأسد وبوتين. باتت المصالح الروسية واضحة: حضور في المتوسط، أنابيب النفط، ضرب التطرف الإسلامي لمنعه من التمدد في محيط روسيا، توسيع الدرع الروسية ضد الدروع الأطلسية الممتدة من تركيا الى الخليج فأوروبا وبحر الصين. ثم تقديم نموذج لرئيس يفي بوعوده لحلفائه ولا يتخلى عنهم. (تماماً كما هي حال السيد حسن نصر الله مع العماد ميشال عون).

كل هذا مهم، ولكن الأهم، هي الفكرة الأولى عند الرجل حديدي العضلات، رخامي الوجه. هو يجاهر منذ نحو 8 سنوات، بأنه يريد إعادة التوازن الى العالم الأحادي القطب ووقف التسلط الأميركي. هذا بالضبط ما دفعه الى تعزيز المنظمات الإقليمية والدولية مثل الـ «بريكس» و «شنغهاي» ودول جوار بحر قزوين وغيرها. هذا ما يدفعه أيضاً لاعتبار سوريا المتراس المتقدم في حربه. وهو يعرف أن الصين ستدعمه لأنها تحتاجه في علاقتها الصدامية مع أميركا في بحر الصين ولأنها تفضل إرباك الأطلسي في الشرق الأوسط قبل التمدد الأميركي الأكبر في شرق آسيا. وعلى هذا بالضبط راهن الأسد حين عقد تحالفه الاستراتيجي مع بوتين منذ عام 2007.

أدرك سيد الكرملين أن ألأطلسي يسعى لمحاربته بالعمق السني العربي والتركي. أيقن أن السعودية تغريه لإبعاده عن إيران. نجح في جذب مصر السيسي بحدود معقولة. غازل الأردن. عزز علاقاته مع الجزائر. جعل المملكة المغربية أول شريك تجاري له في أفريقيا ونسج معها علاقات استراتيجية. لا بل جامل السعودية نفسها بعدم الاعتراض على تحالفها العسكري في اليمن.

كل هذه العلاقات مهمة، لكنها ليست مفصلية. إيران هي الأهم حتى إشعار آخر. لا يتعلق الأمر بمئات مليارات الدولارات التبادلية فقط، ولا بالمشاريع النووية، ولا بصواريخ أس 300 وإنما بمنظومة سياسية عسكرية اقتصادية في مناطق حساسة في العالم لمقارعة الأطلسي.

لم يتغير بوتين. هو ماضٍ في معركته. حين يغامر بالانخراط العسكري المباشر في سوريا، فهذا أكبر من مجرد دعم للنظام. حين تصل علاقته بدولة أطلسية مثل تركيا إلى حد إسقاط الطائرات، هذا أبعد من مجرد صدام عابر. حين يحارب «داعش» و «النصرة» ويسخّف المسلحين الآخرين من «جيش الشام» الى «الجيش الحر»، ويزدري الائتلاف المعارض، فهو تماماً كالأسد يريد معارضة منسجمة مع نظرته للحل.

لا يريد بوتين صداماً مباشرة لا مع الأطلسي ولا مع الأميركيين، إلا إذا اضطر لذلك لو غامرت تركيا. هذه المرة سيرد حتماً. هو لم يقل مرة إنه حليف لـ «حزب الله»، وإنما يجاهر بمد اليد للجميع، لكنه عملياً يعمل بتنسيق عسكري دقيق مع الحزب.

ولم تتغير إيران. فحين يُقتل لها ضابط كبير بأهمية العميد محسن قاجاريان وغيره في سوريا، فهذه استراتيجية كبيرة، لم تبدأ لتنتهي من دون تحقيق اهداف كبرى. هي تدرك مع موسكو أن انتصارهما مع الجيش السوري سيغير الكثير، تماماً كما أن السعودية تعتقد بأن دورها هو لجم التمدد الإيراني مهما كان الثمن.

هنا يُطرح السؤال المركزي: هل سيسمح المحور الآخر بهذا الانتصار لمحور المقاومة وروسيا؟

قد يتأخر الجواب حتى انجلاء صورة الانتخابات الأميركية المقبلة.. لكن لنلاحظ قليلاً ما يجري:

ـ سعي تركي للعودة الى الداخل السوري، وكلام سعودي عن إرسال قوات برية للانضمام الى التحالف. رد عليه قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري بالتهديد بأن السعودية ستواجه «هزيمة حتمية وانتحاراً» إذا انضمت قوات برية سعودية الى التحالف الدولي في سوريا. وتبعه وليد المعلم بالحديث عن توابيت خشبية. وقريباً يقول نصرالله الشيء نفسه حتماً.

ـ تأجيج عالمي لقضية النازحين السوريين عبر الحدود التركية، يخدم احتمال التدخل.

ـ تسعير سعودي لقضية الأحواز الإيرانية. ثمة خطة ستتصاعد لاحقاً حول هذه القضية وفق مصادر سعودية.

ـ رفع مستوى الكلام عن تحالفات سنية جديدة في العراق، وجذب دول مثل السودان وجيبوتي وجزر القمر والصومال وإندونيسيا.

ـ تسعير الحملة الغربية والسعودية والتركية ضد روسيا. ظهر ذلك خصوصاً من خلال تنسيق الكلام في مؤتمر لندن قبل أيام.

لا يريد بوتين وخامنئي حرباً مع أميركا أو الأطلسي. ولا أميركا تريد، فهي تعتقد أن الاتفاق النووي مع إيران، سيسّرع وصول الإصلاحيين (قد يظهر في انتخابات إيران آخر الشهر الحالي إن أميركا تغالي كما غالت في تحديد زمن سقوط الأسد). لا بل إن 3 شيوخ جمهوريين قرروا زيارة إيران، في سابقة.

لا أحد يريد صداماً دولياً، لكن ثمة شعوراً تركياً سعودياً بخسارة كبيرة في سوريا بعد معركة الشمال وتحرير نبل والزهراء وغيرهما.. فهل تجران الجميع الى صدام أوسع؟ وماذا لو كان مطلوباً توريط السعودية فعلياً في سوريا تمهيداً للتغييرات في العرش، وتغيير مناهج التعليم، وضرب الفكر الوهابي وتعزيز الحريات ودور المرأة (هذه شروط أميركية قديمة وتتجدد الآن بعد موجات الإرهاب؟).

معركة الشمال مفصلية لكل شيء، هي ستبرهن هل أن روسيا وأميركا متفقتان فعلاً تحت الطاولة، أم أن الأطلسي يريد إغراق روسيا في الوحل السوري ريثما تأتي إدارة أميركية جديدة. الانتصار الكامل مرغوب، ونصف الانتصار مفيد لشروط التفاوض.

موسم الحرب في الشمال مهم لموسكو وطهران ودمشق. مهم عسكرياً وسياسياً ولكنه مهم أيضاً لوقف الاستنزاف الاقتصادي. لننتظر ونر. وبالانتظار، فإن الشعب السوري يدفع من دمه للأسف ثمن أسوأ حروب القرن.