< يخطئ الكثيرون إذا قارنوا بين الوجود الروسي في سورية بتدخلها في أفغانستان واحتلالها له، فقد كان التدخل الروسي في نهاية السبعينات الميلادية لدعم حكومة كابل الشيوعية، التي مثلت -حينها- للاتحاد السوفياتي رأس جسر يقربها من مياه الخليج العربي الدافئة.
اليوم، الوضع الاستراتيجي في العالم مختلف تماماً، فروسيا أصبحت دولة نفطية عملاقة، وأكبر بلد مورد للغاز في العالم، وهي لذلك لم يعد يستهويها الاقتراب كثيراً من منطقة «المياه الدافئة»، بل إن هدفها الاستراتيجي -الحالي- يتعلق بمسألة حياة أو موت، ولكن من نوع آخر هذه المرة، هو «الاقتصاد» بلا شك.
ولذلك يفطن بعض المحللين إلى أن أهم أسباب إشعال «الخريف العربي»، لم تكن دعم الحراك والاحتجاجات الشعبية، بل كانت مؤامرة كبرى من أجل الاقتصاد، ذلك الاقتصاد العالمي الذي وجد نفسه أسيراً لانهيارات عام 2008، ولم يتعاف منه أبداً، على رغم كل المحاولات التي بذلها المتضررون في أوروبا وأميركا.
فأوروبا منهكة تماماً، وتكاد اليونان والبرتغال تشهران إفلاسهما، وستلحقهما -حتماً- إيطاليا وفرنسا، أما أميركا فعلى رغم كل ما فعلته الإدارة الديموقراطية من انكفاء على نفسها، والانسحاب من كل المشكلات في العالم، إلا أن وضعها الاقتصادي لا يزال مهزوزاً، وستظل لفترة طويلة مخنوقة داخل تلك الدائرة الاقتصادية المتعثرة.
إذاً، ما العلاقة بين ما يحدث في سورية وأوكرانيا والخريف العربي؟
يبدو أنه في صبيحة يوم «ما» في إحدى الضواحي اللندنية في عام 2008، قررت مجموعة «ما» لها تأثيرها القوي، وارتباطها الاستخباراتي بمجموعات وتنظيمات مشبوهة في العالم العربي، أن تصنع (مدماكاً) كبيراً يهدم الجار «الشرق الأوسطي»، بحجره وبشره، وإعادة بنائه من جديد، ليتم على آثاره بناء اقتصاد غربي مفعم بالحيوية والشباب.
أما سورية -تحديداً- في هذا الخريف، فقد كان الهدف الاستراتيجي أعمق، من أجل التخلص من الارتهان للغاز الروسي للأبد، الذي أضنى أوروبا سياسياً، فأوروبا ترى نفسها أسيرة الغاز الروسي، وأن ذلك الغاز الملقم لاقتصادها هو من يُوقع في نهاية الأمر على قراراتها السياسية.
وفي الوقت نفسه تأكد للروس من أن تكرار تجربة «الخريف العربي» في أوكرانيا، والانقلاب على الحكومة الشرعية هناك كان هدفه قتل الاقتصاد الروسي وتجويع الإمبراطورية الناشئة، وأنها ليست أكثر من محاولات للسيطرة على طريق الحرير، أو لنقل طريق «الغاز الروسي» الواصل عبر أوكرانيا باتجاه أوروبا.
ولنكن أكثر وضوحاً، فإن معركة الصراع الحقيقية لم تكن أوكرانيا، بل كانت سورية.
والسبب.. أنه، وفي سبيل التخلص من الهيمنة الروسية على تزويد أوروبا بالغاز، كان لابد للغرب من أن يجد مزوداً آمناً يكون بديلاً نهائياً، ومن دون أي كلفة سياسية، إضافة إلى تأمين طرق الإمداد، وهو ما عثر عليه فعلياً في طريق الغاز «القطري-السوري»، الذي يقف في وجهه الجغرافيا والسياسة والآيديولوجيا.
ولحل تلك العوائق، كان لابد من تدمير الثورة السورية في مهدها، ووضع حكومة موالية -غالباً حكومة تتبع الإخوان المسلمون- تسمح بمد خط أنابيب قطري من حقول الغاز بالخليج العربي، مروراً بالعراق، ثم سورية، ومنها باتجاه اليونان فأوروبا.
ولذلك جاء التدخل الروسي المباشر العاجل خوفاً من تداعي النظام في دمشق وانهياره، بعدما دعمه طوال أربع سنوات؛ على أمل تصديه لأحلام شركات الغاز الأوروبية.
اليوم، تتمركز القوات الروسية بين البحر الأبيض المتوسط، وبين حقول الغاز في الخليج العربي، وفي الوقت نفسه ترضخ أوروبا للحل الروسي، القاضي بإبقاء بنية النظام السوري عسكرياً وبنيوياً، مع التفاوض على رحيل بشار، ورحيل أنبوب غاز الخليج العربي إلى غير رجعة.
نعم، لم يكن ذلك حباً في «بشار الأسد»، بل كان حباً وما يزال في الغاز الروسي، وإبقائه سلعة إستراتيجية روسية في الأسواق الأوروبية، ومن ثم بقاء الروس أحد سادة العالم الكبار.