منذ إعادة انتخابه في مارس (آذار)، تراجعت معدلات الرضا العام عن أداء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تبعاً لجهة حكومية معنية باستطلاعات الرأي. وهذا الشهر، تحرك الكرملين نحو رفع سن التقاعد – إجراء لم تستطع حتى الحمى التي صاحبت بطولة كأس العالم التي استضافتها روسيا التمويه على الرفض الشعبي له – في الوقت ذاته، يعاني الاقتصاد الروسي من الجمود، مع توقعات باستمرار معدلات النمو المنخفضة حتى عام 2020، كما تسببت العقوبات الغربية التي فرضت ضد البلاد في أعقاب ضم روسيا للقرم إليها عام 2014، في تقييد قدرة البنوك الروسية على الحصول على تمويل دولي. وعليه، اضطر الكرملين إلى اللجوء إلى احتياطيات النقد الأجنبي، واضطر كذلك البنك المركزي الروسي إلى مساندة القطاع المصرفي داخل البلاد.
في الخارج، لا تزال القرم خاضعة تحت سيطرة روسية قوية، لكن تبعاً لاستطلاع رأي أوكراني فإن 8 في المائة فقط من الأوكرانيين لديهم نظرة إيجابية تجاه القيادة السياسية لروسيا. كما أبقى التدخل العسكري الروسي على الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة، لكنه أخفق في إقرار السلام وإنهاء الحرب الأهلية السورية. ورغم التوترات الداخلية في الغرب – التي تجلت أثناء قمة حلف «الناتو» – يبقى موقف روسيا غير آمن.
وسعياً لاسترضاء الرأي العام لديه، يحتاج بوتين إلى ترمب – وتحتاج روسيا إلى الولايات المتحدة – أكثر مما يحتاج ترمب والولايات المتحدة إليه، رغم أنه بالنظر إلى أسلوب تعامل ترمب مع بوتين، لا يمكن للمرء الشعور بذلك. في كتابه «فن عقد الصفقات»، تحت عنوان «استغل نفوذك»، يبدأ ترمب حديثه بقوله: «أسوأ شيء يمكنك فعله أثناء سعيك لإبرام صفقة ما أن تبدو مستميتاً عليها».
ومع هذا، فإنه على امتداد الأسبوعين الماضيين فقط، يبدو أنه فتح الباب أمام الاعتراف بضم القرم إلى روسيا. والمؤكد أن إغداق ترمب الثناء على بوتين، وتأجيجه لأزمة مصطنعة داخل «الناتو» والمقابلة التي أجرتها معه صحيفة «ذي صن» البريطانية وبدا خلالها أنه يقوض مكانة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، كل هذا يدعم موقف بوتين، ويوحي بأنه حريص بشدة على الفوز برضاه.
من ناحيتها، أعلنت وزارة العدل، الجمعة، عن اتهام 12 ضابط استخبارات عسكرية روسية بالتدخل في انتخابات عام 2016. لكن هذا لم يقوض القمة بين الرئيسين الأميركي والروسي. في مجملها، تبدو هذه التحركات محاولة للتودد إلى بوتين بنبرة تصالحية على نحو لا يتناسب مع النفوذ الذي يتمتع به ترمب وإدارته بالفعل أمام الرئيس الروسي.
إلى جانب العقوبات، تتمتع الولايات المتحدة بنفوذ اقتصادي وعسكري كبير. أثناء قمة «الناتو»، أشار ترمب إلى ألمانيا باعتبارها «أسيرة في يد روسيا»، في إشارة إلى خط أنابيب «نورد ستريم 2» – مشروع خط أنابيب روسي من المقرر أن يزيد اعتماد أوروبا على الغاز الطبيعي الروسي – ومن المقرر أن ينقل «نورد ستريم 2» الغاز الطبيعي الروسي عبر بحر البلطيق ثم من خلال ألمانيا. وسيسمح هذا الخط لروسيا فعلياً بتجاوز أوكرانيا كطريق «ترانزيت»، الأمر الذي يحرم أوكرانيا من مليارات الدولارات. وحتى قبل أن يعلن ترمب معارضته المشروع، لمح مسؤولون بإدارته إلى أن الولايات المتحدة ستدرس فرض عقوبات ضد الشركات المشاركة في المشروع بدعوى القلق على أمن الطاقة الأوروبي. ومن شأن هذه الخطوة قتل المشروع، وتكبد المساهم الرئيس به – شركة «غازبروم» الروسية المملوكة للدولة – مليارات الدولارات في صورة استثمارات وعائدات مفقودة. ومن المؤكد أن الاقتصاد الروسي الضعيف بالفعل سيتضرر كثيراً جراء هذه الخطوة.
وقد أنهى ترمب مشاركته في قمة لحلف «الناتو»، التي رغم غضبه الشديد إزاء الإنفاق الدفاعي الأوروبي، حققت خطوات كبيرة على صعيد ردع روسيا. ورغم أن ثماني دول أوروبية فقط تلتزم حالياً بالهدف المتفق عليه بشأن تخصيص 2 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي للإنفاق الدفاعي، فإنه تبعاً للإعلان الصادر عن «الناتو» لعام 2018 فإن «ثلثي دول الحلفاء أقرت خططاً وطنية لإنفاق 2 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي لديها على الدفاع بحلول عام 2024». وتضمن الإعلان الذي وقعته جميع الدول الأعضاء بما فيها الولايات المتحدة، لغة قوية تؤكد دعم «الناتو» لسلامة أراضي أوكرانيا وتدين «الضم غير القانوني وغير المشروع للقرم» الذي تعهدت الدول الحلفاء بعدم الاعتراف به.
جدير بالذكر أنه على رأس شكاوى الكرملين، نمو «الناتو» وتزايد الوجود الأميركي في دول البلطيق وشرق أوروبا. ومن المحتمل أن يثير بوتين هذه القضايا خلال لقائه ترمب، لكن لا ينبغي أن يذعن ترمب أمامه، ذلك أن حماية الأمن الأوروبي من خلال «الناتو» يشكل الرادع الأكبر في مواجهة العدوان الروسي. وعندما يلتقي بوتين وجهاً لوجه، فإنه بدلاً عن الإسهاب في الحديث عن شكاواه بخصوص «الناتو»، يتعين على ترمب التأكيد على وحدة «الناتو» والموقف عبر الأطلسي الموحد إزاء أوكرانيا.
من جانبه، يدرك بوتين جيداً أن عليه التوصل لاتفاق مع ترمب كي يتمكن الأخير من إعلان نجاح القمة. وربما من أجل ذلك، عزز بوتين جهوده للوساطة في اتفاق لسحب قوات إيرانية من على الحدود الإسرائيلية – مطلب تقدمت به إسرائيل والولايات المتحدة – وتبعاً لتقرير إخباري من وكالة «بلومبيرغ»، فإن الاتفاق الجديد سيدفع بقوات حكومية سورية محل ميليشيات إيرانية، الأمر الذي يعتبر أهون وطأة بالنسبة لإسرائيل.
ومن أجل التوسط في الاتفاق، التقى بوتين مستشاراً رفيع المستوى للمرشد الإيراني، علي خامنئي، في اليوم التالي للقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. إلا أن قدرة روسيا على فرض هذا الاتفاق محدودة، نظراً لأنها من المحتمل أن تضطر إلى المشاركة بقوات برية لمراقبة وفرض الترتيبات المتفق عليها، الأمر الذي يبدو بوتين على غير استعداد للقيام به في وقت تعاني شعبيته من التراجع. أما ترمب، فيجب أن يبقى متشككاً إزاء الهدايا التي يقدمها الروس، خاصة أن إبرام اتفاق في الشرق الأوسط يبدو أمراً من المتعذر تطبيقه على أرض الواقع. وبدلاً من الانخداع بوعود ترمب وتكرار الخطأ الذي اقترفه الرئيس باراك أوباما عندما قبل ضمانات روسية بخصوص ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية، ينبغي أن يدرك ترمب أن روسيا لن تتخذ أي خطوات حقيقية يهدد تحالفها مع إيران. وحتى يتغير هذا الوضع، ستبقى المصالح الأميركية والروسية في حالة تعارض.
وربما يحلم بوتين كذلك بأن تقلص واشنطن من التزاماته الأمنية والدفاعية تجاه أوروبا، الأمر الذي سيترك القارة أكثر خضوعاً للنفوذ الروسي. تلك هي الأشياء التي يملكها ترمب ويرغب فيها بوتين.
في المقابل، فإنه بدلاً من محاولة كسب رضا بوتين، يتعين على ترمب أن يدرك أن بوتين هو الذي يحتاج إلى كسب وده، ذلك أن روسيا في موقف ضعيف ويتعين على ترمب العمل على استغلال هذا الضعف، مثلما فعل مع حلفاء أوروبيين.
* خدمة «واشنطن بوست»