IMLebanon

بوتين يرسم والآخرون ينفّذون

لقاء «آستانة – 6»، لن يُنتج حلاً ولن يفرض سلاماً، لكنه بالتأكيد لن يشبه اللقاءات الخمسة التي سبقته، وكانت مجرّد تمهيد وتحضير جيّد له. لقاء آستانة، سيفتح طريقاً نحو التغيير والتمهيد للحل النهائي، وقد بدأت تتضح بعض المقترحات الإيجابية، بعد اختيارات ناجحة. الأهم أن التطورات العسكرية والسياسية، تفرض نفسها على مختلف الأطراف.

بداية، «النظام الأسدي» لم ينتصر لكنه لم يُهزَم. المعارضة المسلّحة هُزمت لكن الثورة لم تنتهِ. المحاور والجبهات الخارجية، تغيّرت تركيبتها. لم تعد تلك التي كانت قبل أشهر، ولم يعد لديها الإرادة والتوجُّه والتصميم على الفعل كما انطلقت مع بدايات الثورة في آذار 2011.

أيضاً كون «الدول الضامنة» الثلاثية، أي روسيا وإيران وتركيا، أكدت شراكتها في الحلّ وخَطتْ طريقاً على الأرض وليس على الماء. لا شك أن تحوُّل تركيا الكبير من الحرب في سوريا وتحالفها مع روسيا بعد الخلافات شكّل تحوّلاً ضخماً في مسار العمل للتوصّل إلى حلّ. أيضاً لا يمكن إسقاط عامل مهم للوصول إلى «آستانة – 6» والأمل بتحقيق نجاح واضح يفتح الباب نحو نجاحات أكبر وأهم، أن القوى السورية من النظام والمعارضة قد «تعبت» أولاً وأنها ثانياً بدأت تستوعب بأن الانتصار والإلغاء مستحيلان لكليهما. وربما ـــ وهو ما سيتأكد لاحقاً ـــ أن الاتفاق شامل على استبعاد وإسقاط القوى الإسلامية المتطرّفة، التي سمّمت الثورة وأجهضتها أمام العالم أولاً والسوريين أساساً. إلى جانب ذلك فإن بقاء الولايات المتحدة الأميركية بلا استراتيجية

واضحة منذ الرئيس باراك أوباما ونهجه في البقاء في موقع «المراقب» وليس الفاعل، وصولاً إلى الرئيس دونالد ترامب الغارق في مشاكله الرئاسية والشخصية، وإسقاطه لأي استراتيجية في مواجهة أحداث العالم وليس سوريا فقط، أجهض محاولات الإنقاذ. لكن الأخطر أنه سلّم «مفاتيح» سوريا للرئيس بوتين، ممّا قلب كل معادلات الشرق الأوسط.

الرئيس بوتين يدير «اللعبة» اليوم في سوريا ويوزّع الأدوار والمهمّات. حل «خفض التصعيد» الذي وُضِعَ ونُفِّذ بنجاح في العديد من المناطق السورية، فتح الطريق نحو توسيعه وتعميمه وصولاً كما يبدو من نتائج «آستانة -6 » كما هو متوقع، إلى محافظة إدلب. لا شك أن الدور الروسي الميداني ونجاحه كشرطة عسكرية تحول دون أي اشتباك حتى ولو اضطرت للتدخّل بالنار، رفع منسوب الثقة عند الأطراف المعارضة والمقاتلة، وجعلها تتقبل الاقتراحات المستقبلية. لكن حتى هذا النجاح سيبقى موقتاً، ما لم يُدعم بحلول نهائية تتناول بنية النظام المقبل.

حتى الآن يبدو الدور الروسي في سوريا مقبولاً، ليس لأنه حقّق بعض النجاحات فقط، ولكن لأنه لم يتدخّل في إعادة تشكيل تفاصيل بنية المجتمع السوري كما تعمل وتنشط إيران. الروس لا يحاولون التدخّل في «نسيج» المجتمع السوري إلا بما يتطلب أمنهم العسكري والسياسي. في حين أن الإيرانيين يكثّفون من نشاطهم «التبشيري الشيعي»، في مجتمع سنّي محافظ، ويشترون أراضي وغيرها ضمن صيغة ما لا يمكن تحقيقه بـ«التبشير» يمكن إنجازه بالارتباط والانخراط الاقتصادي. ولا يقف الأمر عند الأراضي والمعامل وإنما أيضاً مناجم الفوسفات وحقول النفط والغاز. كل ذلك يفرض حالة من التحفّظ الشعبي السوري في مواجهة الدور الإيراني. أمّا بالنسبة لـ«حزب الله» والميليشيات الشيعية، فإن العداء الشعبي هو الأساس. قد لا يُترجَم إلى العلن، لأن الخوف من المجهول يحول دون المواقف العلنية، وإبقاؤها داخل الجدران وذلك كما ينقل سوريون كثيرون انتقلوا إلى الخارج.

إيران وبقرار من المرشد آية الله علي خامنئي، قاتلت وتقاتل وأنفقت الأموال وتتابع الإنفاق، للمحافظة على «الأسد إلى الأبد». الواقع أن القيادة الإيرانية لم تبخل بالدماء والأموال لتحقيق الانتصار. ومن ذلك أنها تشبثت بالأرض عبر جنرالات «الحرس الثوري» وقوات «حزب الله» (حسب كل التقديرات وصل عديد قواته إلى سبعة آلاف مقاتل يقف خلفهم في الإدارة والتموين حوالى الضعف) والميليشيات العراقية والأفغانية والباكستانية وغيرهم من آسيا الوسطى (يراوح عددهم بين 30 ألفاً وخمسين ألفاً). أما الجبهة التي ناصرت المعارضة، فإنها لم تعرف كيف تتفق ولا كيف تنشئ قوى قتالية متجانسة ومتضامنة، والأخطر من كل ذلك فتح طرف أو أكثر الباب على مصراعيه أمام التنظيمات الإسلامية المتطرّفة التي سمّمت الثورة وأدت إلى «وفاتها المعلنة»..

يرى عقلاء من الثورة، أن بشار الأسد قد نجح في جرّ المعارضة إلى «عرينه» عندما اندفعت نحو «العسكرة» التي بسببها سقطت «الثورة» أيضاً في «مستنقع» المنظمات الإسلامية المتطرّفة سواء كانت «النصرة» أو «داعش» أو غيرهما. فكسب الأسد رهانه «أنا أو هم». والأخطر أن العالم الغربي وقف يتفرّج على «ذبح» الثورة تحت شعار الخوف من «سكين» «داعش».

يبقى أن نجاح موسكو حتى الآن لا يعفيها من مسؤولية: ماذا بعد عن النظام القادم؟

«النظام الأسدي» نظام شمولي لا يقبل ولا يتحمّل أي تغيير ولو بسيط لبنيته. تغيير وزير الثقافة، مثلاً، كأقل ما يمكن، لا يتحمّله «النظام الأسدي» فكيف في تغيير رئيس الوزراء وإدخال المعارضة حتى القريبة منه؟

مهما يكن، حتى ولو وقفت طهران تحت حجّة الدفاع عن «خط المقاومة» إلى جانب بقاء الأسد، فإن التغيير ولو محدوداً واقع. والرئيس بشار الأسد يعلم جيداً ومعه العديد من المحيطين، أنه سيضطر في النهاية وتحت الضغط الروسي وبالتفاهم مع واشنطن إلى «شرب كأس السم»، أي إحداث تغييرات واضحة في النظام. هنا يبقى استكمال المهمّة على المعارضة، وكيفية تعاملها مع المستقبل الصعب جداً، فتحيا أو تموت!