IMLebanon

بوتين يعيد قراءة الأزمة السورية

لم يتوقّع أي من المراقبين أن يعلن الرئيس الروسي فجأة قرار الانسحاب من سورية، حتى الأميركيون الذين يتميزون عن الآخرين بامتلاك شبكة ضخمة من مراكز الرصد والمتابعة والتقدير، بدا أنّهم متفاجئون بهذا القرار ولم يجدوا غير التشكيك فيه وسيلة لمواجهة الصدمة.

لكن في الغالب، فإن القرار ليس وليد لحظة ولا نتيجة ردة فعل عاطفية بل هو نتيجة قراءة معطيات كثيرة لدى صانع القرار الروسي، من ضمنها الوضع الميداني وقناعة القيادة الروسية التي اختبرت قوات بشار الأسد وحلفائه باستحالة استمرار الحفاظ على الأرض التي كسبوها، ومن ضمنها أيضاً الانعكاسات على الاقتصاد الروسي الذي لم يعد خافياً مدى تأثره نتيجة الانخراط المباشر في الحرب السورية، ومن الأسباب كذلك التوتر الإقليمي الذي يقترب من حافة الانفجار في وجه بوتين، وأيضاً التشبيك الحاصل في العلاقات مع أميركا والدول الأوروبية وإنهاء حالة العزلة الروسية في أوروبا إلى حد ما وقناعة الروس بأن كل ذلك من شأنه أن يتحطم في حال الاستمرار في الحرب.

ليس بعيداً من ذلك بداية تبلور موقف أوروبي حازم من السياسات الروسية وهو موقف مهم من شأن تطويره أن يأخذ ترجمات عديدة كلها قد تربك بوتين وخططه في وضع روسيا في مكانة عالمية مهمّة، وهو العامل الذي شكّل أحد أهم محركات التدخل الروسي في سورية.

غير أن ما يبدو سبباً مباشراً لاتخاذ بوتين هذا القرار فهو نابع من قناعته أن خريطة الأزمة السورية تاهت من بين يديه وإدراكه فشل النموذج الذي صمّمه للتعاطي مع الأزمة، أو على الأقل انتهاء مفاعيله، فالرجل الذي دخل ميدان الأزمة ولديه مقاربة واحدة تفضي إلى نهاية واحدة، وتقوم على استخدام موجات النار لإخضاع الجميع لرؤيته، اكتشف أن الأزمة أعقد من هذا الإجراء التبسيطي الذي يصلح أكثر لألعاب الكمبيوتر منه على واقع معقد بتفاصيل وتشعبات كثيرة، هي أزمة تولّد لموجات من الديناميات والتداعيات، وكلّما جرى رتقها من جهة تفتّقت من جهات أخرى، وأزمة مفتوحة على كل الاحتمالات.

ولعل ما هو أهم من تحليل سبب انسحاب روسيا توقّع التداعيات التي سينتجها هذا الانسحاب، فهل ستنهار الهدنة التي رعتها روسيا بين النظام وفصائل الثوار؟ وهل سيحاول نظام الأسد تسخين الأوضاع الميدانية ليضغط على بوتين ويدفعه إلى التراجع عن قراره؟ ما هو موقع إيران وأذرعها في القرار الروسي؟ وما هو موقفها منه؟ وهل سيتراجع تدخلها أيضاً نتيجة فقدان الغطاء الجوي الروسي، وبخاصة بعد الانتشار الواسع لأذرعها على جبهات القتال بالاعتماد على المساندة الجوية لروسيا؟

ماذا أيضاً عن البنية العسكرية لنظام الأسد والتي قامت روسيا بإجراء تعديلات معينة عليها، بعضها حقق انفصالاً فعلياً عن المنظومة العسكرية لنظام الأسد ولإيران وصار تنسيقه بشكل كامل مع قاعدة حميميم، مثل الكتائب التي يقودها العقيد سهيل الحسن، وبعضها دفعته روسيا إلى تغيير نمط مهماته من العمل على الحواجز في المدن إلى المهمات القتالية المباشرة، مثل قوات الدفاع الوطني التي شاركت في استعادة بعض المناطق في ريف اللاذقية. وبالإجمال، فإن الحضور الروسي وإشرافه على مسرح العمليات العسكرية كانت له ترتيبات فرضتها طبيعة العمل وكان من نتيجتها حصول فراغات في التنسيق بين الرأس الذي يقوده نظام الأسد وأجهزته الأمنية وبين القواعد العسكرية المنتشرة على أكثر من عشر جبهات وفي احتكاك مباشر مع الخصم وتعوّدت على نمط سهل من القتال يرتكز على المساندة الجوية للطائرات الروسية.

ماذا عن تقاسم المعلومات الاستخبارية والغرف التي تم إنشاؤها لهذا الغرض في بغداد وحميميم، وعن منظومات الأسلحة الحديثة التي ورّدتها روسيا حديثاً إلى حليفها نظام الأسد؟ هل سيتم سحبها من أرض المعركة مع أن طواقم قوات الأسد لا تزال في طور التدرّب عليها وبعضها أسلحة فردية موجهة ضد الأفراد والآليات الصغيرة، وهو ما كانت إسرائيل قد حذرت موسكو من إمكان انتقاله إلى «حزب الله»؟

الانسحاب الروسي في هذا التوقيت وعلى هذا الشكل يترك الباب مفتوحاً أمام احتمالات وتداعيات كثيرة، كما أنه ينذر بتغيير ديناميكيات الصراع، ليس بين الأطراف التقليديين ولكن داخل جبهة الأسد وحليفته إيران، وخصوصاً مع سحب طهران جزءاً من مستشاريها معتمدة على إدارة روسيا وسيطرتها على مسرح العمليات. ثم هل ينتج هذا الانسحاب المفاجئ ظهور تيارات داخل منظومة الأسد بعضها متشدّد ويدعو إلى استمرار الصراع بأي طريقة وثمن، وبعضها واقعي يدعو إلى الاستفادة من فرصة السلام قبل زوال الغطاء السياسي الروسي؟

الأكيد أن هذا القرار سيخلق دينامية جديدة داخل سورية ستظهر نتائجها في المستقبل القريب.