الرغبة المشتركة التي عبّر عنها رئيسا روسيا وتركيا في إعادة العلاقات بين بلديهما الى سابق عهدها، بعد فترة قصيرة من الجفاء والإجراءات الانتقامية والمرارات الشخصية، لم تكن كافية لإخفاء الاختلال في ميزان القوى بينهما لمصلحة الأول. ولأنه لا عداء ثابتاً ولا صداقة دائمة في سياسات الدول، فإن المصالح وحسابات الربح والخسارة هي التي تتحكم بدفء العلاقة أو برودها.
كان واضحاً خلال المحادثات أن بوتين هو الطرف الأقوى في المعادلة، وأنه يعرف أن «صداقة» تركيا المتجددة وراءها رغبة في كسر الطوق الذي بدأ يرتسم حول نظام أردوغان، سواء في الجوار الأوروبي أو عبر المحيط الأطلسي، أو في المشرق العربي، وأن استعجال أنقرة العودة بالعلاقات، وخصوصاً الاقتصادية، الى مستواها السابق، يكشف ضعف «السلطان» الذي لم يخرج بعد من حالة التجاذب الداخلي. ولهذا قرر «القيصر» أن يلجم حماسته ويكتفي بالتلويح له بـ «جزرة» التطبيع بانتظار أن يظهر المزيد من المرونة في الملفات العالقة ويثبت حسن نواياه، مشدداً على أن استعادة التعاون الذي كان، تتطلب عملاً شاقاً وتحتاج الى وقت.
كان لاعب الشطرنج الروسي يدرك أن ضيفه يواجه وضعاً داخلياً شديد التوتر والصعوبة، على رغم فشل انقلاب دبره بضعة جنرالات، وألقى بالمسؤولية عنه على الداعية فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، والتي يطالبها أردوغان بتسليمه. ويعرف أيضاً حجم الانقسام السياسي والاجتماعي الذي تثيره حملة التطهير الواسعة التي شنها أردوغان وكان واضحاً أن خطتها رسمت قبل المحاولة الانقلابية بكثير، بل إن البعض يؤكد أن المحاولة جاءت لاستباقها بعدما تسربت أنباء عن قرب تطبيقها.
وهو بالتأكيد تابع كيف اضطر الرئيس التركي في خطاب أمام تظاهرة مليونية في اسطنبول قبل أيام الى «إعادة الاعتبار» الى مؤسس تركيا العلمانية مصطفى كمال، فيما استراتيجية حزبه كلها تقوم على إلغاء «جمهورية اتاتورك» وإحلال جمهوريته الإسلامية مكانها.
وكان اقتراب الأكراد السوريين من احتمال إعلان اقليمهم، ومراوحة المعارك في سورية وعدم تحقق الرغبة التركية في رحيل بشار الأسد، دفعت أردوغان، قبل المحاولة الانقلابية، الى اتخاذ قرار غير متوقع بإنهاء التوتر مع إسرائيل وروسيا اللتين تتشاركان مع بلاده ودول أخرى في إدارة الصراع الدموي المحتدم في سورية. ولعبت إسرائيل في هذا المجال دور «الصديق المشترك» الذي لا تستطيع موسكو وأنقرة تجاوزه في أي تسوية للحرب السورية، بسبب تورطهما السياسي والعسكري فيها، ونتيجة التزام الأميركيين والأوروبيين المصالح الإسرائيلية نفسها من دون تحفظ.
ثم جاء الانقلاب الفاشل ليزيد من اندفاعه، بعدما لاحظ «تردداً» أميركياً وأوروبياً في إدانة الانقلابيين، وعبر أكثر من مرة عن «خيبة أمله» من مواقف حلفائه الغربيين «المتخاذلة» في دعمه، واستيائه من انتقاداتهم لإجراءاته السلطوية المُبالغ فيها. وبدا كأنه يريد الانتقام من حلفائه برغبته في تفعيل سريع للعلاقة مع موسكو التي تمكنت من فرض نفسها شريكاً للأميركيين في بعض أزمات المنطقة. لكن أردوغان منح بذلك بوتين تفوقاً إضافياً في المفاوضات معه.
أما المسألة السورية الشائكة التي خصها الطرفان باهتمام زائد، فلا تزال موضع خلاف يصعب تذليله من دون «تنازلات» متبادلة. وقد يكون الحل الذي وجداه يكمن في التركيز على نقاط الالتقاء بدلاً من الاختلاف، أو في تبادل الأوراق، كأن تتوقف أنقرة عن المطالبة بتغيير النظام (وهو ما حصل الى حد ما) في مقابل تخفيف الدعم الروسي والإسرائيلي لقيام كيان كردي شبه مستقل عند الحدود التركية. وقد يظهر الحل أيضاً في «مقايضة» ما في حلب الخاضعة لمد وجزر قد يطولان. ويناسب ذلك بوتين الذي يفاوض من جانبه الأميركيين على حلب، بعدما تبين أن دعمه الجوي للقوات النظامية والميليشيات الإيرانية ليس كافياً لتحقيق انتصارها.
ويحاول بوتين أيضاً التغلب على مشكلة اوكرانيا، الممر الإلزامي لتطبيع العلاقات مع أوروبا ولإمدادات الغاز اليها. فعودة العلاقات مع أنقرة قد تسمح له بإحياء مشروع «تركستريم» لنقل الغاز الى الأوروبيين عبر تركيا، ما يوفر عليه تقديم أي تنازل في الملف الأوكراني، موقتاً على الأقل، ويسمح له بتعويض جزء من الخسائر الناجمة عن العقوبات الأميركية والأوروبية على بلاده بعد احتلالها شبه جزيرة القرم وضمّها.