قمة اسطنبول التي ستضم زعماء تركيا وروسيا وفرنسا والمانيا ستعزز موقف أنقرة وحضورها في شمال سورية. وسترسخ اتفاق سوتشي الذي عقد منتصف الشهر الماضي بين الرئيسين فلاديمر بوتين ورجب طيب أردوغان، وجنب منطقة إدلب حرباً كان النظام السوري وحلفاؤه يستعدون لها. ستكون القمة مناسبة لطرح وجهتي نظر «ثلاثي آستانة» و»مجموعة السبع» الغربية – العربية (تضم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والمانيا والسعودية والأردن ومصر). لن يخرج الحل السياسي لأزمة سورية من هذا اللقاء السبت المقبل. لن تكون موسكو قادرة على إقناع أوروبا بالمساهمة في إعادة إعمار بلاد الشام في غياب التسوية السياسية. ولا الرئيس ايمانويل ماكرون والمستشارة أنجيلا ميركل سيكونان قادرين على دفع سيد الكرملين إلى تغيير موقفه أو مشروعه الخاص في هذا البلد. لو كانت هناك نافذة لإطلاق التسوية لما تعثر قيام اللجنة الدستورية. بل لما كان المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا قدم استقالته بعد أربع سنوات من توليه هذه المهمة. علماً أنه كان عليه أن يستعفي من زمن. شعر متأخراً بأن كل الخدمات التي قدمها إلى حلفاء دمشق أثارت حفيظة الأميركيين وغضبهم. لم ترق لهم مساهمته في إفراغ كل القرارات الدولية، خصوصاً القرار 2254، من مضمونها، وسيره خلف آستانة وسوتشي، وأخيراً في طرحه أسماء مرشحة للجنة الدستورية كانت ستغلب بالتأكيد حضور النظام وحلفائه في أعمالها. فالمعروف أن في صف المعارضة ممثلين لـ «منصة» موسكو و»منصة» القاهرة أيضاً. الأمر الذي يعني ببساطة وقوع اللجنة تحت سيطرة دمشق وحليفيها. ولا شيء يضمن بعد ذلك انجاز الدستور المرجو، خصوصاً لناحية تقليص صلاحيات الرئيس. لذلك رفعت واشنطن وشريكاتها الصوت اعتراضاً… ولذلك لا يرضى النظام السوري أيضاً بلجنة تضم ممثلين للتيارات المدنية تحوز موافقة الغرب، وتفقده الغالبية والغلبة.
أذاع نبأ القمة الرباعية الرئيس أردوغان في تموز (يوليو) الماضي. كانت في حينه استجابة لرغبة روسيا. لكنها تعثرت وصرف النظر عنها بعدما أدرك الرئيس بوتين، إثر لقائه السيدة ميركل في فيينا الشهر التالي، أنها لن تحقق مرامه. كان يروج لمشروع إعادة اللاجئين وبدء ورشة الإعمار. وضعت باريس شروطاً. وكذلك فعلت الدول الأوروبية الأخرى والولايات المتحدة المعنية بهذين الملفين. فهي تدرك أن سيد الكرملين لن يقدم شيئاً يضير دمشق أو يغضبها. لن يكشف حقيقة موقفه من مستقبل النظام ومصير الرئيس بشار الأسد بعد انتهاء ولايته في العام 2021. إنه يصر على إطلاق الحل السياسي من دون أن يقدم أي ضمانات تتعلق بهاتين النقطتين، إضافة إلى مستقبل الحضور الإيراني الذي يزداد انتشاراً. كما أن الغرب الذي تدعوه موسكو إلى المساهمة في إعادة الإعمار سيركز في حال انخراطه في هذه الورشة على المناطق الأكثر تضرراً في البداية، وهي لأهل المعارضة، كمثل حمص وحلب. في حين أن المدينتين تقعان اليوم تحت سيطرة طهران والميليشيات الموالية. وثمة أسئلة أخرى تطرحها العواصم الأوروبية عن صلاحياتها في هذه الورشة. فكيف لها أن تقتطع من موازاتها البلايين لإنفاقها في مناطق لا سلطة لها فيها على ميليشيات النظام وغيرها؟
القمة الرباعية لم تعد منذ شهرين وأكثر حاجة للرئيس بوتين. فهو إذا كان يخفي في جعبته أوراقاً تتعلق بمستقبل النظام والميليشيات، خصوصاً الموالية لإيران، فإنه لن يقايض عليها زعماء أوروبا. يفضل بالتأكيد أن تكون جزءاً من صفقة مع الرئيس دونالد ترامب. والصفقة بعيدة الآن بعدما عادت إدارة الأخير إلى استراتيجية جديدة حيال سورية عنوانها البقاء في شرق هذا البلد حتى إنهاء آخر جيوب «داعش» وقيام التسوية السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة، وخروج إيران وميليشياتها. وهي تبحث اليوم في أنجع الوسائل لمحاصرة نفوذ طهران. لذلك كان الرد السريع من زعيم الكرملين قبل أيام أن انسحاب إيران من سورية ليس مشكلة روسيا. هو «قضية يجب حلها بين إيران وسورية، وإيران والولايات المتحدة»! وأبدى استعداده للمشاركة في هذا الحوار. وتابع يوم الخميس في مؤتمر مجموعة فالداي للحوار الاستراتيجي في سوتشي أن تدخل بلاده حال دون تفتت أراضي بلاد الشام «وتحولها إلى سيناريو شبيه بالصومال». لكن المثير قوله في هذه المناسبة أن القوات الروسية «حررت نحو 95 في المئة» من هذه الأراضي! في حين يعرف تماماً أن نحو أربعين في المئة من الأراضي السورية لا تخضع للنظام، على حد ما ذكّره به المبعوث الأميركي جيمس جيفري.
بات واضحاً ان الرئيس بوتين لن يتخلى عن «الورقة الإيرانية». قال جون بولتون مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي أن سيد الكرملين لا يريد إيران في سورية، وأنه ليس قادراً وحده على إخراجها من هذا البلد. كان ذلك قبل شهرين، وقد يكون الأمر صحيحاً. تبدلت الظروف مع الانعطافة السياسية الكبيرة لإدارة ترامب حيال بلاد الشام. لم تعد موسكو مهتمة بالعمل على إخراج قوات «الحرس الثوري» وميليشياته. بل هي لم تكن يوماً جادة في هذا الهدف. لقد قدمت إليها هذه القوات سنداً كبيراً في الميدان، ووفرت عليها إرسال قوات برية كبيرة للقتال إلى جانب النظام. ولا تزال تحتاج إليها ما دامت تقيها مشقة الانخراط المباشر في القتال الميداني على الأرض. وإذا كانت واشنطن تتوكأ على «قوات سورية الديموقراطية» و»وحدات حماية الشعب» الكردية في ترسيخ قواعدها العشرين في شرق سورية وشمال شرقيها، فليس ما يضير أن تتوكأ روسيا على القوات الإيرانية وميليشياتها في المناطق التي يسيطر عليها النظام. وليس ما يحول تالياً دون اتكال تركيا أيضاً على قوات الفصائل وتقدم بعض فرقها داخل الحدود السورية لحماية حضورها ونفوذها شمال سورية.
لذلك باتت قمة اسطنبول الرباعية حاجة تركية اليوم. أرادها الرئيس الروسي قبل شهرين ليقايض فيها سيف الحسم العسكري في إدلب الذي جيش له الجيوش، لعله يستدرج أوروبا الخائفة من موجة جديدة من اللاجئين السوريين. لكن التحذيرات التي أطلقتها الدول الأوروبية وحشد بعضها قوات مع الولايات المتحدة مهددة النظام في دمشق، وعناد تركيا وتصلبها بعد فشل قمة طهران في السابع من أيلول (سبتمبر)… كلها دفعت موسكو إلى التروي. فهي ايضاً أبدت حرصاً على عدم خسارة أنقرة… وكانت التسوية في اتفاق سوتشي بين الرئيسين بوتين وأردوغان الذي باتت مواقفه السياسية أقرب إلى موقف أوروبا وأميركا. فهو يحتاج إليهما للخروج من أزمته الاقتصادية والمالية المستفحلة. وما يرجوه من القمة أن تدعم موقفه الرافض أي عملية عسكرية. ولن يكون أمام سيد الكرملين سوى الحضور لاستكشاف امكان التعاون بين «المجموعة المصغرة» التي طرحت رؤيتها للحل السياسي و»مجموعة آستانة»، أقله في موضوع اللجنة الدستورية.
لا يعول الرئيس بوتين على نتائج مثيرة من قمة اسطنبول. ولا الزعيمان الفرنسي والالماني كذلك. التصريحات الأخيرة لزعيم الكرملين، خصوصاً عن «تحرير 95 في المئة من الأراضي السورية» تكشف أنه راض في هذه المرحلة بـ «الحصص» القائمة، أو هو «يشرعنها». لقد تحررت معظم الأراضي فعلاً من سيطرة تنظيم «داعش» وأخواته، إذا كان هذا ما يقصد بتحديده 95 في المئة. لكن النظام لا يسيطر فعلياً على أكثر من ستين في المئة. بل إن خصومه، الأميركيين وحلفاءهم الكرد والأتراك وحلفاءهم في المعارضة، يسيطرون على أكثر من أربعين في المئة، وهي المناطق التي تحوي معظم النفط والغاز والأراضي الزراعية التي تشكل سلة الغذاء لبلاد الشام. يعني هذا المشهد السياسي الجديد أن موسكو لا تملك الآن سوى القبول بما قسم لها. تحتفظ بوجودها ووجود حليفها الإيراني في ما سمي «سورية المفيدة»، ويحتفظ الأميركيون والأتراك بمناطق انتشارهم وحلفائهم. بل إن الدعم الذي تقدمه واشنطن إلى شرق الفرات وأهله لإقامة إدارتهم وإعادة إعمار ممناطقهم ستجعل من الكرد رقماً صعباً في المعادلة السياسية حين يحين أوان التسوية… فيما إسرائيل ضمن لها الروسي إبعاد الإيرانيين عن حدود الجولان، وإن ظاهراً على الأقل. ولا يبقى أمام المعارضة أو»المعارضات» السورية سوى الجلوس والانتظار وتقطيع الوقت بمواصلة الحديث عن خلافاتها فيما ترتفع وتيرة الخسائر إلى حد لم يبق شيء في أيدي أي من الفصائل السياسية والعسكرية!