Site icon IMLebanon

مدرسة بوتين في سياسة الخداع

 

يذهب بعض المحللين الأميركيين إلى الشفقة على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوصفه ضحية خداع الرئيس السوري بشار الأسد، ذلك أن بوتين، ومن خلال تفحّص وعوده لإدارة الرئيس باراك اوباما، كان جاداً وحتى مخلصاً، في مسار الحل السياسي في سورية، بيد أن تكتيكات الأسد التي قامت على تضييق هامش الخيارات أمام بوتين دفعته للنكوص والتراجع عن التزاماته.

يرتكز هذا المنطق على مؤشرات ضعيفة تتمثل بوعود بوتين الكلامية، من دون النظر الى السلوك الذي يتبعه والذي يقوم على تأسيس معطيات مختلفة كلية وتندرج في سياق استراتيجيته تجاه سورية، من محاولات تعويم الأسد وتمييع المعارضة وتقوية نفوذ حلفاء النظام وتشريع وجودهم، مقابل إضعاف المعارضة والانخراط المباشر في الحرب عليها.

لكن، وبعيداً عن الخوض في الوقائع التي تبرهن على سطحية الفرضيات التي تقول بجدية بوتين في الحل السياسي، وهي كثيرة، فإن مثل هذه الفرضيات أصلاً لا تتفق مع الثقافة السياسة لبوتين ولا مع سلوكه الذي بات علامة فارقة في السياسة المعاصرة، إذ تثبت سيرة الرجل أنه لم ينخرط من قبل في عملية سلام، في كل الأزمات التي واجهها واعتبر أنها تشكّل تحدياً له تعامل معها بالعنف والخديعة وأنهاها بالطريقة التي يرغب هو فيها.

السياسة لدى بوتين صنو الحذاقة والتشاطر وهي صنعة محكومة بقدرة السياسي على تمرير أفعاله وفرضها وليست مهمة التكاليف والنتائج التي تترتب عليها، وبالتالي يصبح مجالاً للفخر أن يتم استخدام سورية، بأرضها وسكانها، حقلاً تدريبياً للسلاح الروسي طالما أن العالم قبل بهذه السياسة بحجة المحافظة على مؤسسات الدولة وحماية الحكومة الشرعية.

لقد أوجد بوتين جملة من الأدبيات السياسية والقواعد يمكن لأي قائد أو زعيم سياسي الاسترشاد بها لتعلم فن المخادعة، وبما أن بوتين يسيطر على قوة عظمى نووية، فإن العالم يجد نفسه مضطراً للتغاضي أو لتمرير بعض سلوكياته، غير أن المشكلة تكمن في أن الزعماء الأقل وزناً من رؤساء الدول وقادة الأحزاب والمنظمات يقتبسونها على أنها قواعد قانونية مقبولة دولياً وتمثل وجهة نظر أخرى ممانعة أو منتقدة للنظام الدولي بقيادته الغربية بعد أن يجرى تكييفها مع أوضاعهم وصراعاتهم، والتي هي في الغالب في مواجهة الشعوب التي يحكمونها.

إنه زمن بوتين السياسي لأن ليس سواه من ينتج قيماً سياسية، في حين أن العالم معطّل فهو إما مستنكر أو صامت. وحده بوتين يجرب، ينجح ويخفق، لكنه ينتج دائماً قيماً سياسية، وإن كانت هذه القيم معيبة في جوهرها، غير أنه يجبر العالم على تفسيرها أحياناً ودائماً يبحث عن طريقة لفهمها، وبذلك يكون بوتين منتج السياسة والاستراتيجية الأكثر فاعلية في السنوات الأخيرة، ربما لهذا صنفوه إحدى أهم شخصيات هذه الفترة!

ولعلّ من أهم قواعد السياسة التي فرضها بوتين على العالم، قاعدة عدم وجود يقين سياسي ولا ضمانات للالتزامات والتعهدات السياسية، وأن كل شيء متحرك وقابل للتعديل والتغيير لحظة يغيّر السياسي الشاطر المعادلات السياسية والاستراتيجية، وهذا يتطلب استثمار الفرص السانحة وقراءة ذكية لطبيعة المرحلة والقدرة على الانغماس في مفاصل الأزمات والأخطار وتحويلها إلى فرص، تماماً كما استطاع تهديد الوحدة الأوروبية مستثمراً أزمة اللاجئين، والتي هي في الأصل من إفرازات الأزمة السورية التي ينخرط فيها بوتين بقوة.

لا يتوقف زمن بوتين السياسي على السياسات التي ينتجها، بل بما أنتجه من نسخ طبق الأصل تتبع أساليبه نفسها، في إيران وسورية والعراق ولبنان وكوريا الشمالية، وتنذر البيئة الدولية بتفريخ المزيد من هذه النسخ، التي تعتمد سلوك الخداع والمراوغة في السياسة وطرق معالجة الأزمات الإقليمية والدولية. صحيح أن هذه النسخ كانت حاضرة حتى قبل وصول بوتين الى السلطة، لكنها كانت شبه محاصرة، وهي تنتعش اليوم ضمن الحقول التي صنعها تنازل العالم لبوتين عن كثير من القيم والحقوق.