فرح عظيم حلّ على زغرتا بعد ترشيح «بيكها» سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. حتى خصومه تضامنوا معه. لكن بعض مناصريهم لم يتقبلوا الترشيح. أما أكثرية الزغرتاويين الموالين لـ«البيك»، فلم تتأثّر بما يُقال في «دوائر القرار» السياسي الوطنية والإقليمية عن تراجع حظوظه الرئاسية بعد 5 أشهر على ترشيحه من قبل الرئيس سعد الحريري. بالنسبة إليهم، «ما في رئيس إلا فرنجية»
الساعة تشير إلى منتصف النهار إلاّ نصف ساعة، تقريباً. يُسرع الرجل إلى استقبال الزبائن الجدد: «كنتوا عم تنبّشوا عا الآرمة؟ (لافتة المحلّ)». لا يُخفي غبطته حين يأتيه الجواب بأنّ «المكان أشهر من أن نستدلّ عليه بلافتة. كنا نتأكد من عدادات الوقوف». العدّادات «شكلية» هنا. «ينعجق» صاحب المقهى في تقديم القهوة والعصير… والحلوى «ضيافتو».
المكان هو «كافيه عيروت» في مدينة زغرتا. هنا نقطة إلتقاء «الجيل العتيق» من مناصري تيار المردة. الجيل الجديد في «المردة»، جيل النائب سليمان فرنجية، مركزه في المقهى ـــ المطعم الذي يقع على بعد أمتارٍ قليلة من «عيروت». بين أنصاره يُرفع فرنجية إلى مرتبة القديسين. هم الذين هتفوا باسمه: «انت البطرك يا سليمان»، رداً على خلافاته مع الكاردينال نصرالله صفير في 2005.
أما في «المرجان»، فالغلبة هي لأنصار آل معوض. الاعتقاد الراسخ بينهم أنّ «الرئيس رينيه معوض هو الوحيد الذي عمل لهذه البلاد». على كلّ «لماذا تسأليننا رأينا؟». يأتي السؤال مُستغرباً من مارسيل المعتمر قبعة راعي البقر البنيّة اللون. يهزّ رأسه ساخراً: «نحنا من ضمن الـ30 ألف حمار بهالضيعة». يقولها باللهجة الزغرتاوية، مذكّراً بالفيديو الذي انتشر عشية الانتخابات النيابية في الـ2009 وظهر فيه فرنجية ينهر «زلمه» بعد محاولتهم الاعتداء على السيارات التي كانت ترفع علم القوات اللبنانية، ووصفهم بـ«الحمير» و«الكلاب».
تخجل السيّارة وهي تشق طريقها بين بساتين الزيتون في الكورة وصولاً إلى زغرتا. صوت مُحركها يُشوّه صمت المكان. بين زواريب القرى، لا شيء سوى بضعة رؤوس ماعز وراعيها. خلابّة هي المشاهد الطبيعية في قضاء زغرتا. إلا أنّ عاصمته لا تُشبه بقية قراه. أُريدَ لها أن تكون «العاصمة» ومركز الادارات الرسميّة ونبض القضاء الإقتصادي. قبلت «الدور» ولكن على مضض، فتراها حائرة بين «التمدن» والمحافظة على الهويّة الريفية. في الأصل، زغرتا هي «الحصن». تسندها جبال الشمال من الخلف وتفتح لها طرابلس ذراعيها من الأمام. حمت نفسها، في القدم، بسورٍ ضخم يُطوقها. ولكن في عام 1516، قرّر «الباب العالي» إهداءها إلى أهالي إهدن عربون وفاء لاستقبالهم في ديارهم أعضاء كتيبة عسكرية. الفرمان العثماني حوّلها إلى مشتى إهدن على السواحل الشماليّة. ومن حينه، اعتاد الاهدنيون النزوح من بلدتهم في اتجاه زغرتا، ولا يعودون إليها سوى في الصيف.
أنصار معوّض: في هذه البلاد رينيه بيك هو الوحيد الذي اشتغل
الأخبار التي تنتشر عن زغرتا كثيرة، معظمها قائم على «فائض القوة». تُستمد القوة من نفوذ العائلات التقليدية التي تمكنت من فرض أمر واقع: أنا الدولة. في هذه البلاد يُقال، من باب المبالغة، إنّ الأمهات يُشجعن أبناءهنّ بدل حلّ الخلافات على المواجهة: «قوصو وطلاع عا البيت». هناك «مناصب» غير موجودة في مكان آخر، ربما. يتذكر أبناء القرى المحيطة بالمدينة جيدا شخصاً يُلقب بـ«السلطان». يمضي وقته في المقاهي ولكنه يعيش حياة باذخة. وظيفته؟ «بلمّ الفايدة من المستدينين بقوة السلاح». وآخرون أصبحوا من أشهر مرابي كازينو لبنان. زغرتاويون كثر يتباهون بذكوريتهم، كأنهم بذلك يعيدون تحصين أنفسهم من جديد. سورهم «وهمي» هذه المرّة.
المجتمع الزغرتاوي «مجتمع قاس وذلك ناتج من أسباب تاريخية ــ دموية»، يُبرر مسؤول سياسي زغرتاوي. إفرادياً «هناك طابع حادّ ولكن نسبة الجريمة منخفضة جداً مقارنة بباقي المناطق». لا يُنكر أن أبناء المنطقة «يُحبون النكات التي تلتصق بهم. إلا أنه لا واقع عمليا لها». يعود إلى أيام الحرب الأهلية حين أُقفلت المنطقة «ما أدى إلى تطور اقتصادنا. فرحت العائلات بذلك ولم يعد لديها أي مصلحة في تجييش الناس». بالنسبة إلى المسؤول، انتشار فروع للبنوك في زغرتا دليل عافية، «بعدما كانت ترفض التوسع زغرتاويا بسبب سمعة غير حقيقية».
أهمية هذا المجتمع ليست في «قوته»، بل في أنه عروبي الهوى، «عصبيته مناطقية لا طائفية». يُسجل للجمهور الزغرتاوي أنه «لم يؤمن يوماً بالفدرالية أو بالتقسيم. استشهاد طوني فرنجية كان جزءاً من هذه المعادلة». الرجل في «عيروت»، الذي كان قد انتهى من شرب قهوته، فخور بذلك: «آل فرنجية من أساس المقاومة في لبنان». من هذه النقطة «ينقضّ» الرجل على النائب ميشال عون، منافس فرنجية إلى رئاسة الجمهورية. «نحن مع المقاومة إيماناً وليس من أجل الحفاظ على حقوق المسيحيين». أصلاً، «السيّد (حسن نصرالله) حكيها مبطنة. إذا ما في مجال لعون بالرئاسة، ما في إلا الوزير فرنجية. بس عون ما عم يعرف إنو حظو ولا شي». الآمال كبيرة بأن يُنتخب فرنجية رئيساً: «رح يصير في خدمات أكتر وتزفيت طرقات بلدة الرئيس. متل ما الواحد يكون معو ألف دولار ويربح اللوتو بمليون»، يقول الرجل الذي يزعم أنه كان أحد العاملين مع «خيي» الوزير يوسف سعادة. ولكن، كيف تقبلون أن يصفكم فرنجية بأبشع النعوت؟ «يا اختي عبّولو منيح براسو هوي ونازل من بنشعي. فكّر في قتلى». يتذكر الرجل ذاك اليوم من عام 2009: «سواء انتقدتينا أم لا، ولكن نحن كأهالي زغرتا لن نقبل أن يأتي واحد رافعاً علم القوات. أما علم حركة الاستقلال (آل معوّض)، فلم يمسّه أحد». الاتفاق البلدي بين فرنجية وميشال معوض «خطوة حلوة»، بنظر الرجل. ولكن «البلدية فيلم كبير. يللي منجيبو بيقلب ضدّنا». إجمالاً، «زغرتا رايقة والمنطقة صافية لفرنجية».
«بتعرفي الزعامة ببيت فرنجية من ايمتى؟»، يسأل رجل كان يعمل في الجمرك. كانوا ثلاثة داخل «عيروت»، أمامهم عدد من الصحف. يعتبون على «الأخبار»: «إيش زعجها بترشيح البيك؟ بإيش تنازل البيك لتيار المستقبل؟ رح قلك شغلة وقوليها لـ(رئيس التحرير ابراهيم) الأمين. أخصام بيت فرنجية هني ذاتن، يوم شيوعيين ويوم بعثيين وهني اليوم قوات وعونيين. تاريخيا نفسن بينتخبوا ضدو. فما خسر شي». يضيف رجل آخر بأن «السيد حسن قال إنه يثق بفرنجية. ونحن هنا جماعة الوزير فرنجية نُشكل 90٪ من زغرتا. نحن جعلنا الجميع يُحب نصرالله. ومن هنا أساس سياسة البلد». بالنسبة له «سليمان ليس بزعيم عادي. هو أكبر زعيم في لبنان». أهمية آل فرنجية أنّ «تاريخهم يمتد منذ الـ1856 حتى اليوم. زعامة مبنية على الشرف ونظافة الكف». يُستفز الرجل الأول من اتهام فرنجية بأنه استفاد من الوزارات التي تسلّمها لـ«تسجيل» الخدمات. «هوي كريم الأخلاق وما بيرد شغلة عن حدا. من مين أخد؟ حكّم العالم من جيبتو. وزّع نمر للناس؟ ما كل الوزراء اللي قبلو وبعدو عملوا هيك». بالمناسبة، تكثر في القضاء سيارة تكون لوحة تسجيلها غير «مميزة».
غلّة الانتقادات الكبيرة من نصيب عون، «ليكي لأي مستوى وصل. طلع اجتمع بخالد ضاهر». الحق على «سليمان كبّرو (عون) وصار يقلّن انو متل بيّو! لك بيّك انت طوني بيك». ولكن أليس عون صاحب أكبر تكتل مسيحي وتيار يمتد على مساحة الوطن؟ «اذا قبضاي يفوت عا الشمال اذا سليمان ما موافق»، يقول الرجل. مناصرا فرنجية أكيدان: «إذا ما إجا البيك ما في رئيس جمهورية».
بعد ترشيح الحريري لفرنجية إلى رئاسة الجمهورية، كان لافتاً تضامن فعاليات زغرتا معه، وبينهم خصماه ميشال معوض وجواد بولس. الأول زاره وها هو اليوم أنجز مع تيار المردة إتفاقاً بلدياً عنوانه العريض عدم إلغاء أحد. والثاني لم يبخل بتغريداته الداعمة للترشيح. ليس ذلك بالأمر الغريب. ساحات زغرتا تتذكر كيف شبك الرئيسان سليمان فرنجية ورينيه معوض أيديهما بعد انتخاب فرنجية رئيساً. إلا أنّ الآراء الشعبية في محيط «المرجان»، لا تصبّ كلها مع فرنجية. يجتمع مارسيل وحنا وإيلي وبيار أمام المحال التجارية، محاولين رصد المارّة. ومن النادر أن يمر أحد دون أن تعلو أصواتهم مرحّبة. «سعد الحريري توجه إلى روسيا ليطلب من (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين يأيد فرنجية. وبوتين بدو ياه»، يقول حنا ساخراً من الترشيح. مارسيل يُطالب بصلاح حنينة رئيساً للجمهورية فيما يريد ايلي ديميانوس قطار. ابن عمّ السيدة فيرا يمين يحسمها: «ما في رئيس إلا ميشال بيك معوض». تعلو الضحكات المهللة لكلام كهذا يصدر عن نسيب يمين. أما هو، فيُصر على جدية طرحه. تمر سيّدة من آل فرنجية ومتزوجة من آل معوض، يستوقفها مارسيل ليسمع رأيها. هي مع «ترشيح فرنجية لأنه ابن زغرتا». يحاول مارسيل «السيطرة» على آراء الجميع، فترتفع اعتراضات الرجال الآخرين. «بدك نحكي جدّ هلّق؟»، يسأل. في لبنان «الشعب لا يُقرر. كلهم يملكون القصور وبلدية هنا لا نملك». جُلّ ما يطلبون «أن يعمل في السياسة الأشخاص المثقفون. نحن يهمنا الإنماء ولكن للأسف معظمهم يهمه الزعيم». يمدّ يده، مشيرا إلى الطريق والساحة: «اطلعي بهيدي البلاد، رينيه بيك معوض هو الوحيد يللي اشتغل. اليوم، العصابات والمصالح الشخصية تحكمنا». كلّ ذلك، لا يُفسد في الود قضية، «هذا هو رقم فيرا يمين، اتصلت بها في مناسبة عيد ميلادها لأعايدها». شاب من الضنية كان يقف أمام محله التجاري. حاول الطلب من الرجال التكلم بهدوء، معبّراً عن اعتقاده بأنّه «ما حدا رح يعملنا شي». «انت غريب ما تحكي»، يأتيه الجواب على سبيل نكتة. يبدو أن «الغريب» ليست خاصية كسروانية.
زغرتا بعد ترشيح فرنجية إلى رئاسة الجمهورية غمرتها الغبطة. صور «الرئيس ــ المواطن» زينت السيارات وخيضت الكثير من المعارك «الافتراضية». يقول أحد المسؤولين الحزبيين السابقين إن في لبنان نظامين: «نظام الـ1943 الذي أنتج اقطاعيات وطنية ونظام الحرب الذي أثمر حكاما طائفيين. فرنجية لا ينتمي إلى الفئة الأخيرة».
أحياء العائلات
بعدما تحوّلت زغرتا إلى مشتى لإهدن، حافظت في البداية على هويتها الزراعية، ولا سيّما الزيتون. رويداً رويداً بدأت تتحول إلى مركز اقتصادي وتجاري. العائلات الكُبرى في زغرتا هي: دويهي، معوض، فرنجية، كرم ومكاري، إضافة إلى عائلات أخرى مثل يمين، فنيانوس، سعادة واسكندر. في المراحل الأولى لتأسيس زغرتا، كانت كلّ عائلة تسكن في حارة فيُنسب الحيّ إليها. يُقسمها رئيس حركة الأرض طلال الدويهي على النحو التالي: حي المعاصر معظم سكانه من آل فرنجية. فيما تتقاسم حي السيدة الغربي وحي السيدة الشرقي عائلات دويهي، كرم ومكاري. آل معوض مركزهم حي الصليبي الشمالي والجنوبي. في حارة كرم التين هناك وجود لآل مكاري. حي بو أسعد أو ما يُعرف بعَرّة آل كرم هو تجمع لعائلات «صغيرة توالي آل كرم». بعد التطور الديمغرافي، لم تعد الأحياء حكراً على عائلات معينة.