أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم الخميس، عن أولوياته لفترة الرئاسة المقبلة التي تستمر 6 سنوات؛ إذ قضى أغلب الوقت متحدثاً حول الأسلحة الاستراتيجية الروسية الجديدة، بقدر ما كان يتحدث عن كافة الشؤون السياسية الداخلية في بلاده.
ولا تزال لهجة الانتقام والمواجهة هي السائدة على رأس جدول أعمال الرئيس الروسي. وفي الأثناء ذاتها، يبدو أنه يعتقد أن المشاكل الداخلية في روسيا سوف تصلح نفسها بنفسها إلى درجة كبيرة إن عمل على صياغة الأهداف العليا الطموحة بما فيه الكفاية. وذلك، وبصرف النظر عن الأسلحة الروسية الجديدة، ليس إلا كارثة محدقة في طور التكوين.
وكان خطاب الرئيس الروسي، الذي استغرق قرابة الساعتين، يهدف إلى مضاعفة الوقت الذي يستغرقه خطاب حالة الاتحاد السنوي الأميركي، ويعد المحور المركزي لحملة بوتين الانتخابية قبل إجراء الانتخابات الرئاسية في 18 مارس (آذار) الحالي في البلاد. وعلى الرغم من العرض الجديد، الذي يضم العديد من الرسوم البيانية الرائعة عبر الشاشات الضخمة خلف الرئيس، لم يكن هناك أمر جديد أو غير معروف خلال الساعة الأولى من الخطاب. وكان الزعيم الروسي، يملك ترف المقارنة بين مؤشرات الرفاهية لقاء تلك التي كانت معهودة في روسيا عام 2000 أو2001، ولقد استخدم هذه الأداة على أوسع نطاق ممكن، متفاخراً بأن الروس أخذوا مليون رهن عقاري في عام 2017 مقارنة بـ4 آلاف رهن عقاري فقط في عام 2001، وأن هناك 20 مليون مواطن روسي يعيشون تحت خط الفقر اليوم مقارنة بـ42 مليون مواطن كانوا تحت خط الفقر في عام 2000، ولم يذكر بوتين، ولا مرة واحدة، الطفرة النفطية التي جعلت من تلك التحسينات أمراً ممكناً.
واعترف بوتين أيضاً بأن بعضاً من الأهداف الطموحة التي أعلن عنها قبل انتخابات عام 2012 الرئاسية – مثل زيادة إنتاجية العمالة بنسبة 50 في المائة، أو الحد الكبير من حالة الفقر المدقع في البلاد – لم تتحقق حتى الآن، ولكنه قال إنه لم كان ليتحقق أي تقدم يُذكر ما لم يكن قد رفع من سقف التوقعات. وانطلق في وضع المزيد من الأهداف، داعياً روسيا إلى مضاعفة الإنفاق على الرعاية الصحية من حيث القيمة المطلقة للوصول إلى نسبة 4 نقاط مئوية من الناتج الاقتصادي، وزيادة الإنفاق على تحفيز معدل المواليد بنسبة 40 في المائة. وقال إنه يجب مضاعفة تكاليف بناء الطرق، وينبغي تحديث المطارات المحلية حتى لا يضطر المواطنون إلى الذهاب عبر موسكو للوصول من منطقة إلى أخرى داخل روسيا. ومن شأن خطوط الألياف البصرية أن توفر الإنترنت السريع في جميع أنحاء البلاد بحلول عام 2024، كما ينبغي أن تكون الأعمال الحكومية رقمية بالكامل.
وهذه من الالتزامات المالية الهائلة. ولم يوضح بوتين كيف سوف يتسنى له تمويل هذه المشروعات، كما أنه لم يتعهد بإجراء أي إصلاحات هيكلية قد تسفر عن الكشف عن أي احتياطيات اقتصادية خفية. ولكنه ذكر فقط «الشروط الضريبية الجديدة» التي يتعين على الحكومة فرضها من دون الإضرار بالنمو الاقتصادي في البلاد. ولخص سيرغي إليكساشينكو، النائب الأسبق لمحافظ البنك المركزي الروسي، ومن أبرز المعارضين الحاليين للرئيس الروسي، هذا الجزء من خطاب بوتين في تغريدتين:
1- الانتخابات؟ أي انتخابات؟ إن كل شيء واضح، فليذهب كل منكم إلى عمله.
2 – إن كل ما هو جيد في هذه البلاد قد حدث بفضلي أنا.
3 – أعلم أن هناك مشاكل، وسوف نعمل على حلها بسكب المزيد من الأموال عليها. فمن أين تأتي هذه الأموال؟ سؤال وجيه، ولكننا لن نتناقش في ذلك.
4 – هناك مشاكل عسيرة، أعلم ذلك. والسبب أن البيروقراطيين لا يقومون بعمل جيد. سوف ألقنهم درساً في ذلك!
لكن بوتين بدا على قيد الحياة خلال النصف الثاني من الخطاب، الذي كان مخصصاً بالكلية للنشأة العسكرية الروسية الجديدة، وتخللته مقاطع مصورة من إنتاج الحواسيب المتقدمة على غرار ألعاب الفيديو من حقبة التسعينات. ومن المفترض أن يعكس ذلك جملة من نظم الأسلحة الجديدة، التي أكد بوتين للجمهور الروسي أنها قد اجتازت الاختبارات بكل نجاح، وأن بعضاً منها قد دخل حيز الإنتاج الضخم بالفعل.
واشتمل ذلك على عدة أنواع من الصواريخ، بما في ذلك الصاروخ الباليستي الثقيل «سارمات»، والموديلات الجديدة من صواريخ «كروز» القادرة على تجاوز الدفاعات الصاروخية الأميركية. ومن شأن صواريخ «كروز» أن تكون ذات مدى مفتوح بفضل المحركات العاملة بالطاقة النووية، وأظهرتها الفيديوهات وهي تراوغ عبر المناطق التي تنتشر فيها المنشآت الأميركية المضادة للصواريخ.
وانتشى الجمهور الروسي عندما اقترب مسار أحد الصواريخ من موضع ما في نصف الكرة الأرضية الغربي. كما تباهى بوتين أيضاً بالطائرات المسيّرة العاملة بالطاقة النووية، التي يمكنها الطيران أسرع وقطع مسافات أطول من الطوربيدات الحديثة. وليست هناك من دولة، كما قال بوتين، تملك مثل هذه الأسلحة اليوم، وأن كافة هذه الأسلحة سوف تُبنى بالتكنولوجيا الحديثة لفترة ما بعد الاتحاد السوفياتي.
وحمل هذا الجزء من خطاب بوتين 3 رسائل محددة إلى الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة:
– لم نتوقف أبداً عن أن نكون قوة نووية كبيرة، ولكن لا يفضل أحد الاستماع إلينا. فانصتوا لما نقول الآن! (حفلت هذه العبارة بحفاوة بالغة).
– إن اعتقدتم أن روسيا قد تراجعت إلى الوراء بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد أخطأتم الحساب.. لقد فشلت محاولات احتواء روسيا.
– إن نظام الدفاع الصاروخي الأميركي وتوسيع البنية التحتية لحلف شمال الأطلسي على الحدود مع روسيا ليست إلا «أعباء مالية غير فعالة وغير مجدية».
وليس هذا محض هراء – كما أكد بوتين – وهي المزاعم التي آمل ألا تدخل حيز الاختبار الفعلي.
تحمس بعض من حلفاء بوتين للجزء الذي يحمل التهديدات المباشرة من الخطاب.
وغردت مارغريتا سيمونيان، رئيسة قناة «روسيا توداي»، تقول: «إن ألقى الرئيس الأميركي مثل هذا الخطاب، فسوف يؤيده 99 في المائة من شعبه و100 في المائة من أعضاء المؤسسة الحكومية في بلاده.
وهنا، وبرغم ذلك فلا نحصل إلا على الأنين والاستياء – لماذا نحتاج إلى كل هذه الأسلحة؟ ما هي الرسالة العدائية من ورائها؟».
وإنني أميل إلى الاتفاق مع مواطن روسي آخر من سكان موسكو من الذين يعيشون في الخارج مثلي تماماً، وهو تاجر الأعمال الفنية مارات غولمان، الذي كتب على صفحته في «فيسبوك» يقول: «بدأت في الشعور بالخوف الحقيقي على بلادنا روسيا. إنها ليست مجرد عصابة للمخدرات ذات زر نووي. وهو ليس مجرد انفجار جديد لسباقات التسلح القميئة. بل إنه ضرب من الجنون».
والمشكلة ليست كبيرة فيما يتعلق بالأسلحة الحديثة – فإن دولة كبيرة في حجم روسيا لا بد لها من قوة عسكرية هائلة – كما هو الحال تماماً مع ترسانة الأسلحة الكافية للدفاع عنها. ومن دون إلقاء نظرة متفحصة على المستقبل أو على النموذج الجذاب الذي يحاكيه الآخرون، ومن دون أي قوة ناعمة يتحدث عنها الآخرون، ومن دون النموذج الاقتصادي الذي يضمن النمو المستدام، أو الذي يحفظ الشعب من السقوط في براثن الفقر، إن صوت الصواريخ يثير الرعب في النفوس غير أنه صوت خاو وفارغ. وفي سياق الانتخابات ذات النتائج المحددة سلفاً، فإن القوة العسكرية الروسية المتعاظمة تعني الحماية المثلى لنظام الحكم غير الخاضع للمساءلة.