لا يبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قلقاً من المآلات المحتملة للوضع في سورية. لا أحد لديه النية أو حتى القدرة على تقييد ما يريده رجل الكرملين من نفوذ لبلاده في هذا البلد. يقيس بوتين بميزان دقيق مساحات الممكن والمستحيل في المنطقة، فيندفع متهوراً في ما هو ممكن ويتحفظ متعففاً في ما هو مستحيل.
لا أحد في هذا العالم يجادل في شرعية الوجود الروسي في سورية. والسبب ليس في تلك الشرعية التي تزعمها موسكو والتي يوفرها طلب رسمي من حكومة دمشق. سبق لحكومة أفغانستان الموالية لموسكو أن وفّرت مسوغ «اتفاقية الصداقة والتعاون وحسن الجوار» لعام 1978 لتبرير التدخل السوفياتي الشهير في العام التالي، ومع ذلك لم يعترف الغرب بهذه الشرعية.
لا أحد يجادل هذه الأيام بأن بوتين قام بـ «العمل القذر» الذي لم تكن الولايات المتحدة وحلفاؤها يريدون التورط به. دفع الرجل بطائراته المقاتلة صوب سورية بعد ساعات من لقاء جمعه في نيويورك في أيلول (سبتمبر) 2015 بالرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما. وما تم التفاهم حوله في ذلك اللقاء قد لا يعدو كونه تكليفاً مبطناً لزعيم الكرملين بمهمة تمت رعايتها غرباً ولامست تماماً طموحات بوتين الكبرى.
يتحدث الأوروبيون والأميركيون عن شبه جزيرة القرم والوضع في شرق أوكرانيا منتقدين الدور الروسي «الخبيث» على تخوم «الأطلسي». لا أحد يتحدث عن الدور الروسي في سورية. باتت كبريات وسائل الإعلام الدولية تقارب الأمر بصفته قاعدة لا بصفته استثناء. انتقدت العواصم الغربية مجتمعة ما قيل أنه تورط روسي في محاولة اغتيال العميل الروسي المزدوج سيرجي سكريبال بواسطة سلاح دمار شامل في بريطانيا. وصمتت نفس العواصم عن المقتلة التي تتسبب بها النيران الروسية داخل الميادين السورية.
يكمن سرّ روسيا في سورية في حقيقة أن بوتين الذي يسعى لتحقيق مصالحه ومصالح بلاده حريص على تقديم ذلك بما يذهب مذهب مصالح الآخرين. توسلت دمشق وطهران التدخل الروسي. قيل إن جنرال إيران الشهير قاسم سليماني حمل الخرائط التي تنذر بسقوط حتمي وشيك للنظام السوري، فيما صدر عن بشار الأسد ما يفهم منه العجز عن حماية نظامه. حاولت أنقرة من خلال إسقاط مقاتلة روسية الإدلاء بدلو تركي يحاكي شبهة عثمانية تلتصق بالرئيس رجب طيب أردوغان. ثم عادت لترسم حدود مصالحها وفق ما يتيحه ويرعاه ويصّدق عليه سيّد القول في موسكو.
ضمن ذلك المشهد صاغت إسرائيل مع الرئيس الروسي حكايتها الخاصة في سورية. زار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو موسكو أكثر مما زار واشنطن. وبدا أن تنسيقاً سياسياً وعسكرياً يأخذ بعداً استراتيجياً يؤطر أنشطة البلدين في سورية. حفظت موسكو لإسرائيل مصالحها في سورية وغضت الطرف عن عملياتها العسكرية ضد ما تعتبره تل أبيب مهدداً لأمنها هناك. بدت اعتراضات موسكو على بعض العمليات تلك شكلية داخل المشهد العام، فيما أن التفاهم الروسي الإسرائيلي بدا من ضمن لوازم الشغل التي تتفهمها طهران كما دمشق على مضض.
تحتفظ موسكو من دون شك بقمة الفعل والقول في كل ما يتعلق بالمسار السوري. يتضح يوماً بعد يوم أن واشنطن تقارب وجود قواتها بصفته حالة مؤقتة، وأن تمديد هذا التواجد يخضع لمتطلبات ميدانية لا لدواعي استراتيجية أميركية. وحتى حين يروج الكلام عن قمة مقبلة قد تجمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب وبوتين، فإن ملف سورية يبدو هامشياً على جدول الأعمال المحتمل، بما يؤكد أن واشنطن غير مهتمة بمنافسة موسكو أو بالتشاطر عليها داخل سورية.
تمسك روسيا بكافة مداخل سورية دون منازع أو منافس. والأمر لا يعود إلى مواهب استثنائية وقوة فوق العادة تمتلكها موسكو في سورية فقط، بل أيضاً لأن كافة العواصم الكبرى غير مهتمة بلعب أي دور يناكف ذلك الذي تلعبه روسيا هناك.
تسعى المستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي إلى الاتفاق مع بوتين على رعاية عملية سياسية تتيح تدفق استثمارات الإعمار الأوروبية إلى سورية. بات بوتين متيقناً من حاجة أوروبا إلى الاستقرار السوري على نحو يتيح له أن يطلب من الأوروبيين «إبعاد السياسة عن الإعمار» ليكون «مدخلاً لعودة اللاجئين». وبات بوتين متيقناً من صلابة وضع موسكو في سورية على نحو يتيح له أن يصرح مطالباً بخروج كافة القوات الأجنبية من هذا البلد، وأن يدفع مبعوثه الخاص لشؤون التسوية السورية، ألكسندر لافريننييف، ليُفهم من لا يريد أن يفهم «أن هذا التصريح يخص كل المجموعات العسكرية الأجنبية، التي توجد على أراضي سورية، بمن فيهم الأمريكيون والأتراك وحزب الله والإيرانيون».
تكمن قوة بوتين في سورية في حاجة جميع الفرقاء إليه. يبدو «جنيف» يتهاوى لمصلحة ما تحيكه آستانة بما لا يترك للمعارضة كما للنظام هامشاً للتمرد على الخيار الروسي. وتبدو الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها تركيا هذه الأيام إضافة للتوتر المستمر في علاقات أنقرة مع عواصم «الأطلسي»، عوامل إضافية تدفع أردوغان لتحاشي اللعب في سورية خارج الخطوط التي تضعها موسكو. وتبدو تل أبيب راضية جداً عن مساحة الحرية التي تحظى بها من قبل موسكو للضرب بوتيرة تكاد تكون شبه يومية لأهداف تابعة لنظام دمشق أو نظام طهران أو لحزب الله في سورية. وعلى عكس مما قد يخفيه الامتعاض الصامت لإيران من موقف بوتين المتعاون مع نتانياهو ومن ذلك المتقاطع مع واشنطن، في ما طلبه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو من خروج كامل للقوات الإيرانية في سورية، فإن إيران، للمفارقة، تحتاج إلى روسيا ولا تقوى على التمرد على أجندة بوتين الشيطانية في سورية.
يبتسم بوتين من دون شك. أثمرت فلاحته السورية محصولاً يعمل على قطفه بعناية وبلا تعجل. يبدو رجل روسيا القوي كمن يجلس على باب «البزنس» خلف صندوق النقود يبيع بضاعة أودعها عنده الزبائن وبدأوا يتوافدون من جديد لشرائها. وحده بوتين عرف سرّ الخلطة وأحاجي المحاصيل.