IMLebanon

براغماتية بوتين

 

يحاول بوتين مد الجسور مع الجميع في الشرق الأوسط، حتى مع الذين يتحالفون مع الغرب وتربطهم مصالح قوية مع الولايات المتحدة، ويقفون ضد سياسته في سورية وضد المحور الذي يقوده مع إيران، فمتَن علاقاته مع دول الخليج العربي، ومع تركيا، على رغم عضويتها في «الحلف الأطلسي» وتطلعها إلى أن تدخل الاتحاد الأوروبي، وعلى رغم العداء التاريخي بين موسكو وأنقرة الذي يعود إلى مرحلة الحرب الباردة، وإلى أيام السلاطين والقياصرة ثم الاتحاد السوفياتي. كما متن علاقاته مع إسرائيل و «صديقه نتانياهو».

 

 

في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 أسقطت المقاتلات التركية طائرة «سوخوي» روسية، فتوترت الأجواء بين البلدين وظن كثيرون أن موسكو ستقطع علاقاتها بأنقرة. لكنها اكتفت باعتذار أردوغان عن الحادث وتعهده التنسيق مع قواتها الموجودة في الجانب الآخر من الحدود، وأقام الطرفان علاقات اقتصادية متينة تقدر بعشرات البلايين من الدولارات، وتكفلت روسيا ببناء مفاعلات نووية في البلد الخصم.

 

ولأن بوتين يدرك أنه لن يستطيع التمركز في سورية، والتأثير في سياسة الشرق الأوسط واكتساب صفة الدولة العظمى وتحقيق هدفه الاستراتيجي بعالم متعدد الأقطاب بالقوة العسكرية وحدها، ولن يستطيع محاربة «داعش» و «النصرة» من دون دعم تركيا التي تسلح التنظيمين وتدربهما وترعاهما، لجأ إلى التنسيق مع أردوغان في عملية تشكيل «سورية الجديدة»، من خلال لقاءات آستانة وسوتشي.

 

هذا عن العلاقات الروسية- التركية، أما العلاقات الروسية- الإسرائيلية فكانت متينة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي عندما سمح لمئات آلاف اليهود بالهجرة إلى الدولة الصهيونية، وأصبح للوبي اليهودي نفوذ لا يستهان به في الكرملين، وفي التغطية على أموال المافيا الروسية التي نهبت البلاد بالتعاون مع مسؤولين كبار، وما زال هذا التعاون قائماً بينهما. فضلاً عن ذلك نفذت موسكو مطلباً إسرائيلياً مهماً بتعهدها إبعاد إيران و «حزب الله» اللذين يقول نتانياهو أنهما يشكلان خطراً وجودياً، عن حدودها.

 

لكن كل ذلك لم يغير هدف إسرائيل من الحرب السورية وسعيها، بالتعاون مع الغرب، إلى إغراق روسيا في هذا المستنقع، فتسببت مقاتلاتها في 18 أيلول (سبتمبر) الماضي بإسقاط طائرة «إليوشن» على متنها 14 ضابطاً وجندياً، قتلوا جميعاً. ولم يعتذر نتانياهو عن الحادث، بل صعد لهجته ضد الكرملين وزوَر تحقيقاً، متهماً سورية بالعملية كأن الأقمار الاصطناعية الروسية وأجهزة الرصد المنتشرة في المنطقة لا تستطيع تسجيل الواقعة وكشف مرتكبها، أي أنه استخف بالقدرات العسكرية والاستخبارية الروسية وركبه الغرور. فقرر بوتين تنفيذ تعهد قديم لدمشق بتزويدها صواريخ «أس 300» المضادة للطائرات، باعثاً برسالة إلى الدولة العبرية مفادها أن الأجواء السورية لم تعد مسرحاً مفتوحاً لطائراتها التي كانت تغير على أي موقع في أي وقت، بحجة تدمير الأسلحة الإيرانية التي ينقلها «حزب الله» إلى ترسانته في لبنان، كأنها كانت تأخذ ضوءاً أخضر من قاعدة «حميميم».

 

في التاريخ الروسي سابقة مهمة في العلاقات مع الصهيونية. راهن الاتحاد السوفياتي عام 1948 على إقامة «دولة اشتراكية اسمها إسرائيل» (أيده في ذلك معظم الأحزاب الشيوعية العربية)، تكون نموذجاً لكل الدول في الشرق الأوسط، فكان أول من اعترف بها في الأمم المتحدة. وعندما تبين له أنها قاعدة متقدمة للغرب ضده بدأ يعيد حساباته، خصوصاً بعدما تآمر عدد من الأطباء اليهود لقتل معظم القادة السوفيات بمن فيهم ستالين نفسه، فهل يكرر الكرملين ما فعله الرئيس السوفياتي الأكثر شهرة مع إسرائيل؟ أم يكرر ما فعله هو شخصياً مع تركيا؟