Site icon IMLebanon

بوتين يُعيد للصين ما كانت تتطلّع اليه منذ قرنين

تُجمع الأوساط المتابعة لدهاليز السياسة الروسية وطريقة حياكتها، أنّ العهد الحالي يعاني ليس فقط من التخبّط بل من التأرجح، فيتنقل متوثّباً ومترنّحاً من سلوكٍ الى آخر من دون دراسة نتائجه وانعكاساته.

هذه هي الحال عندما قرّر بوتين ضمّ القرم ضارباً بعرض الحائط الإتفاقات التي وقعت في بيلافيجسكوه بوشه عام 1991 بعد فرط عقد الاتحاد السوفياتي، وتحديداً بشأن وضعية القرم وسيباستوبل وبقائها تحت السيادة الأوكرانية الى عام 2017، واليوم عندما أعاد بوتين الى الصين ما يوازي الأربعة آلاف وسبعمئة كيلومتر مربع، أيْ ما يوازي نصف مساحة لبنان وهي منطقة قريبة من مدينة أوسيريسك في مقاطعة بريمورسك.

وإذ أتت الخطوة بعد مفاوضات جرت في عام 1993 حول ترسيم وتحديد الحدود بين البلدين لتضمّ هذه الأراضي اليوم الى مقاطعة تزيلين في الشمال الشرقي لجمهورية الصين الشعبية.

هذه الأراضي القريبة من نهر خوبوتوجرى ضُمّت الى الأراضي الروسية في القرن التاسع عشر، بعد انحلال الامبراطورية الروسية في سياق ما سمّي في حينه حرب الأفيون التي انتهت بانتصار الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، وتمّ ضمّها الى روسيا القيصرية، بعدما عرضت الأخيرة على الأسرة الحاكمة في الصين في حينه مساعدة عسكرية مقابل تنازلات برّية حيث جرى التوقيع في حينه على معاهدة سُمّيت بمعاهدة «أيغونسغي»، حصلت روسيا بموجبها على حصتها في الضفة اليسرى لنهر أمورد بما فيها هذه المقاطعة المسماة أوسيرسك».

وظلت الصين تعتبر هذه الأراضي أراضي صينية منذ العصور القديمة وكانت تطمح دائماً لإعادتها الى السيادة الصينية، إلّا أنّ ذلك لم يتحقق الّا اليوم، خصوصاً وأنّ هذا الجرح التاريخي كان يُنكأ في كلّ مرة، كانت تطرح فيه أزمة الحدود مع روسيا، والبالغ طولها أربعة آلاف وثلاثمئة كيلومتر، بل إنّ وجودها تحت السيطرة الصينية كان يُحدث أزمة هوية لدى قطاعات من الشعب الصيني الذي كان يعتبر استعادة هذه الأراضي بالإضافة الى قسم من بريموريه وبريامورييه في جمهورية توفا، وأيضاً جزيرة ساخالين قضية شرف وكرامة وطنية.

وإذا كان الخبراء يؤكّدون بأنّ الخلافات الحدودية مع روسيا قد انتهت هنا ولن تكون هناك مطالب أخرى، ولن تطرح في المستقبل أيّ نزاعات على جدول الأعمال، خصوصاً وأنّ اتفاقية عام 2004 الموقعة بين الرئيس بوتين والأمين العام للحزب الشيوعي الصيني تسو تسين تاو شدّدت على الحسم النهائي لهذه المنازعات، حيث تعيد روسيا للصين بضع عشرات الكيلومترات، في مقابل تخلّي الصين عن أيّ مطالب حدودية وخصوصاً في ما يتعلق بتلك التي سلخت عن الصين بموجب اتفاقيتَي أيغونسك وبكين في الأعوام 1858 و1860.

وعلى رغم ذلك، فإنّ الحدث بحدّ ذاته قد أعطي أبعاداً منقطعة النظير في وسائل الإعلام الصينية كما أورد بعض وسائل الإعلام الروسية، بحيث اعتبر أنّ هذا الإسترداد هو استرداد لعظمة الصين ولدورها الجديد كإحدى الدول المتقدمة والكبرى والقوية في العالم، وصولاً الى اعتباره حدثاً تاريخياً ترافق مع اندلاع موجة من الروح الوطنية والحماسة الوطنية قلّما شهدت الصين مثلها في العهدَين الأخيرين.

في هذا السياق، اختلفت الآراء في الداخل الروسي حول أبعاد هذه الخطوة في هذا التوقيت بالذات، والتي رأت أنّ التخلّي عن أراض، وإن أتى في سياق تطبيق إتفاقات موقعة، إلّا أنّ اتفاقات مماثلة وقعت مع أوكرانيا ولم تطبّق، بل تسبّبت باندلاع حرب ضروس ما زالت تداعياتها تتفاعل الى الآن نزوحاً ودماراً واستنفاراً للمشاعر القومية أمور قلّ نظيرها من بعد ذلك في روسيا والاتحاد السوفياتي وفي أوج أزماتهما وضعفهما.

الأمر الذي يربطه خبراء بمحاولة استمالة الصين كدولة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن لتأييد روسيا في قراراتها كاملة بشأن ملفات دولية ساخنة في الشرق الأوسط وسوريا، وهذا ما سرّبته وسائل إعلامية روسية عن مشاركة صينية في الحملة العسكرية الروسية والكوبية، واستمالة دول كانت في الأساس حليفة أكيدة للاتحاد السوفياتي في السابق، وتعتبرها روسيا حالياً حليفة يمكن الاعتماد على مواقفها وتأييدها في حرب تعتبرها روسيا حرباً بالغة الأهمية بالنسبة لمصالحها.

على رغم ذلك، فإنّ أصواتاً من التيار القومي الروسي المتشدِّد في الداخل الروسي رفضت هذه الخطوة، واصفةً إياها بخطوة تنال من هيبة الدولة ومصالحها، خصوصاً وأنّ الشرق الأقصى مع الصين يعانيان من توغّل غير محدود لليد العاملة الصينية الرخيصة الى هذا الإقليم الحيوي في روسيا، معتبرةً إياه توسّعاً خفيّاً ومنظّماً، بحيث تشير التقديرات الى دخول ما يقارب نصف مليون عامل صيني الى سوق العمل الروسية سنوياً، يبقى منهم ما يعادل الـ250 ألفاً في منطقة ما وراء الأورال بما فيها سيبيريا والشرق الاقصى، والمشكلة أنهم يمارسون أعمالهم بشكل موقت يحملون معهم أموالهم وما جنوه الى بلادهم، الأمر الذي يثير الكثير من ردود الفعل والتوتر الإثني الذي يترك بصماته في العلاقات بين المقاطعات المتجاورة خلف حدود البلدين.