يعتقد البعض انّ «قانون قيصر» سيحقق للإدارة الاميركية في سوريا الهدف الذي لم تتمكن من تحقيقه في الحرب، وهو إسقاط النظام وإحلال نظام بديل يكون لها اليد الطولى فيه. وتصل توقعات هؤلاء الى حدود أن يؤدي هذا القانون بعقوباته المشددة الى تفكيك، أو إرباك، المحور الممانع وحلفائه من شاطئ المتوسط الى روسيا والصين وما بينهما، فهل سيكون لواشنطن ما تريد بهذه السهولة التي تتراءى لها؟
تدلّ التطورات المتلاحقة من لبنان الى الساحة الاقليمية والدولية عموماً الى انّ نظاماً عالمياً جديداً بدأ يولد تحت جنح جائحة كورونا التي فعلت فعلها في صحة البشر والانظمة التي تحكمهم، وأدخلت اقتصادياتهم في أزمات سيكون من الصعب الخروج منها في آجال قريبة.
وهذا النظام العالمي العتيد يدفع الدول الى إعادة موضعة نفسها سياسياً واقتصادياً استعداداً للانخراط فيه، خصوصاً انّ الذين أداروا أزمة كورونا بهدف إعادة الامساك بالعالم سياسياً واقتصادياً ومالياً والاحتفاظ بالنظام الاحادي الذي خرج من أحاديثه في السنوات الاخيرة، خرجت اللعبة من أيديهم ليجدوا أنفسهم مساهمين بنحو أو بآخر بالدفع نحو النظام الجديد الذي ما كانوا يتوقعون صيرورة الواقع الدولي إليه.
ويعتقد ديبلوماسيون انّ الولايات المتحدة الاميركية هي من أكثر الدول إرباكاً على ابواب النظام العالمي الجديد لِما تعانيه الآن من أزمات ساهمت جائحة كورونا في تفاقمها معطوفة على الازمة المالية العالمية وانصباب اهتمام إدارتها على الانتخابات الرئاسية المقررة في تشرين الثاني المقبل، والتي تشهد للمرة الاولى تقدّم مرشح رئاسي في النقاط على رئيس مقيم في البيت الابيض يطمح الى الفوز بولاية جديدة هو الرئيس دونالد ترامب، الذي يكاد يخسر الكثير من الرصيد الانتخابي الذي استجمَعه من جرّاء سياساته الخارجية وما جَناه من مال لدعم الاقتصاد الاميركي اعتقد انه سيضمن له الفوز في الاستحقاق الرئاسي المقبل في مواجهة المرشح الديموقراطي جو بايدن.
ولذلك، فإنّ ترامب في سَعيه لضمان هذا الفوز يجد ضالّته في زيادة «العطاءات» السياسية والديبلوماسية «من جَيب غَيره» لإسرائيل، والتي بدأها بنقل السفارة الاميركية من تل ابيب الى القدس، ثم بتأييد القرار الاسرائيلي بضَم الجولان السوري المحتلّ الى ما تسمّيه إسرائيل «أرضها التاريخية»، وإطلاق «صفقة القرن» في شأن القضية الفلسطينية، وصولاً الى المشروع الاسرائيلي بضَم الضفة الغربية المقرر تنفيذه في مطلع تموز المقبل. وبالاضافة الى ذلك، لجأ ترامب الى تصعيد الضغوط والعقوبات على إيران وحلفائها الاقليميين والدوليين، وفَرْض حصار على سوريا ونظامها عبر «قانون قيصر» الذي سيطاوِل كل دولة تتحالف مع دمشق او تتعامل معها اقتصادياً وسياسياً، معتقداً أنه من شأن هذا الحصار أن يسقط نظام الرئيس بشار الاسد، (أو تعديل سلوكه بحسب قول بعض المسؤولين الاميركيين في الآونة الأخيرة) مُتجاهلاً ما سيكون عليه موقف حلفاء دمشق الذين تتقدمهم روسيا والصين وايران وغيرها. ويقول الديبلوماسيون في هذا الصدد انّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي قدّم الدعم المالي والسياسي والاقتصادي والعسكري للنظام السوري على مدى سنوات الحرب السورية وما تَرتّب على هذا الدعم لروسيا من مصالح حيوية راهنة ومستقبلية في سوريا والمشرق، لا يمكن أن يقف مكتوفاً اذا كان الاميركيون او غيرهم يهدفون الى إسقاط هذا النظام او تعريض السوريين للجوع بفِعل «قانون قيصر» أو غيره، علماً انّ دولاً عربية كثيرة، بينها دول تعارض النظام السوري وتخاصمه، لا يمكنها ان تقبل بسقوطه خصوصاً اذا كان يُراد ان يكون البديل له نظام يقيمه تنظيم «الاخوان المسلمين» او ترعاه تركيا حزب «العدالة والتنمية» الإخواني.
ولكن هؤلاء الديبلوماسيين يعتقدون انّ ترامب يدرك حقيقة موقف الروس وحلفائهم مما يذهب إليه بموجب «قانون قيصر»، ولذلك سيسعى من خلال هذا القانون الى تحسين موقعه التفاوضي مع الخصوم في الاشهر الفاصلة عن موعد الانتخابات الاميركية، وذلك بغية توظيف ذلك في معركته الانتخابية في مواجهة منافسه الديموقراطي جو بايدن، خصوصاً انّ رصيده الشعبي الداخلي كان قد بدأ يتراجع منذ ما قبل جائحة كورونا وجاءت ثورة الاميركيين السود بفِعل حادثة مقتل جورج فلويد على يد شرطي أبيض لِتُفقده مزيداً من الرصيد الانتخابي ومن الاتّزان السياسي امام الرأي العام الاميركي خصوصاً، والرأي العام العالمي عموماً.
ويرى الديبلوماسيون إيّاهم انّ خصوم ترامب وإدارته حول العالم يدركون حجم لعبته على الساحة الاقليمية وغايته الانتخابية منها، ويستبعدون انغماسه في أي حروب جديدة فيها أو في أي منطقة من العالم في هذه المرحلة، ويتوقعون بقاءه في ساحة فرض العقوبات على هذه الدولة او تلك وهذا المحور الدولي او ذاك. ولذلك يتوقع ان يواجهه خصومه بسياسة «الصبر الاستراتيجي» اذا لم يقبل بشروطهم للتفاوض معه، فالإيرانيون مثلاً يريدون منه ان يرفع العقوبات والعودة الى الاتفاق النووي الذي خرج منه شرطاً للدخول في أي تسوية او اتفاق معه سواء على مستوى العلاقات الثنائية او على مستوى معالجة الازمات الاقليمية، وهم ليسوا في وارد التخلّي عن هذا الشرط الذي سيطرحونه أيضاً في وجه المرشح الديموقراطي في حال فوزه مع فارق أنهم سيتوسّمون من هذا الاخير، إذا فاز، أن يُعيد الولايات المتحدة الى جادة الاتفاق النووي الموقّع بين ايران ومجموعة «الخمسة زائداً واحداً»، خصوصاً انّ الديموقراطيين هم من وقّعوا هذا الاتفاق ايام الرئيس باراك اوباما.
ولا يختلف تعاطي «حزب الله» مع العقوبات الاميركية عن تعاطي المحور الذي ينتمي إليه معه، فهو يعتمد أيضاً سياسة «الصبر الاستراتيجي» منذ ما قبل «قانون قيصر» في مواجهة الادارة الاميركية وما تمارسه من ضغوط وعقوبات عليه وعلى بيئته وعلى لبنان، وهو يدرك الحدود التي يمكن أن تصل إليها هذه الضغوط والعقوبات، وذلك في ظل انطباع عام سائد ومفاده انّ لبنان والمنطقة يمرّان الآن، وخلال الاشهر الخمسة الفاصلة عن موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية، في مرحلة حافلة بالضغوط على أنواعها، على أن تتبلور طبيعة مستقبل لبنان والمنطقة في ضوء نتائج تلك الانتخابات، والتي إذ يختلف المراقبون في توقّعاتهم في شأنها، فإنهم يلتقون على انه حتى ولو فاز ترامب مجدداً بولاية جديدة فإنه سيَجد نفسه بعدها مُجبَراً على تغيير سياسته في المنطقة، خصوصاً في ضوء النظام العالمي الجديد الذي بدأ يتبلور شيئاً فشيئاً.