لا تعوّض كثرة الأسئلة الصعبة، عن الأجوبة السهلة، ولا يلغي استفحال الغموض الوضوح الأخير.
وفي ذلك، إن كثيرين داخوا ويدوخون في هذه الأيام من تواتر المتناقضات في النكبة السورية، ومن مظاهر ارتباك كثيرة تكاد توازي في مجموعها حاصل فوضى مرتّبة! ومن تعاقب الحوادث وتوازيها في سياقين متنافرين، واحد منطقي، وآخر لا يبدو موصولاً بأي منطق!
وذلك من علاماته، أن يضيع القياس البديهي. وأن تختلط الأوراق التحالفية بطريقة موازية لاختلاط جبهات القتال. وهذه مُتعِبة لمتابعيها ومراقبيها بقدر ما هي دالّة على حقيقة فصيحة مفادها أن السوريين مبتلون بكارثة لا سقف لها ومتعددة الطبقات. وكل طابق فيها أسوأ من الذي فوقه: من فظاعات الطغمة الأسدية وتأسيسها لشقوق في الجسم التكويني السوري الاجتماعي والطائفي والمذهبي والعرقي لن تُرتَقَ على مدى سنوات طويلة آتية.. إلى ترسيخ «حضور» الإيرانيين باعتبارهم أثقل المتدخلين الغرباء وأكثرهم خطراً وشراسة على رغم أن تأسّيهم بالإسرائيليين لن يوصلهم إلى ما وصل إليه هؤلاء!.. إلى وضع الروس سورياً في مقدم خارطة الطرق لاستعادة أمجاد ماضٍ مضى! إلى إصرار الأميركيين على ضمان بقاء الاستنزاف هو العنوان الوحيد حتى إشعار آخر.. ورئيس آخر وإدارة أخرى! إلى «حرص» الإسرائيليين على دوام المذبحة وتشجيع بث أخبارها وتفاصيلها باعتبار ذلك كله هو «الرد» التاريخي على «ادعاءات» عدوانيتها وعنصريتها وإجرامها ولصوصيتها وتأسيسها عملياً للعدم الإرهابي والتهجير الجماعي واستسهال الفتك بالمدنيين، في التاريخ الحديث.. إلى الإرهاب الفعلي والمفتعل وجماعاته وتوظيفاته واستخداماته.. إلخ!
وتلك مقوّمات نكبوية ما كان الظن بأنها يمكن أن تحضر في رقعة واحدة، بمثل هذا السبك وبمثل هذا الاكتمال.. وهي في الإجمال تنتج خلاصة تقول إن سوريا صارت العنوان الوحيد، المكثف والواقعي، لجملة حروب مستعادة من حقبة الحرب الباردة ومضاف إليها(!) حروب ما بعد تلك الحقبة، وخصوصاً تلك الصادرة عن الإرهاب من جهة وعن المشاريع الإحيائية القومية والدينية من جهة ثانية!
وهذه خاصيّة سوريّة! لم تنافسها فيها حروب وأزمات متفرقة راهنة. من أوكرانيا والقرم إلى اليمن والعراق! بحيث إن الخبل الأوبامي المؤدلج والخبيث والانتهازي، جعل سوريا وحدها مسرحاً (فخّاً!) محتملاً وممكناً لتأكيد مشروع «ولاية الفقيه» الإيراني! مثلما جعلها العنوان الأكثر جاذبية للمشروع الإحيائي الروسي الذي يقوده في عالم اليوم، ضابط استخبارات آتٍ من عالم الأمس اسمه فلاديمير بوتين! مثلما جعلها، بالنسبة إلى الأكراد، وأكثر من العراق، محطة تجريبية(!) لمحاولة بناء كيان خاص في الجغرافيا حتى قبل نضوج عنوانه السياسي وشروطه المصيرية و»وظائفه» السياسية الاستراتيجية!
.. في تفاصيل المعارك الدائرة في الشمال السوري، كما في تلك المؤجلة أو المعلّقة في الجنوب السوري! كمٌ من الفوضى لا يخفى على أحد، ومن الغموض (غير البنّاء!) الذي يكاد يحيل كل اللاعبين المحترفين إلى هواة لا يعرفون ماذا يحمل الغد! بحيث إن الارتباك صار سِمة جامعة ودلالة على انعدام اليقين: الروسي «شريك» التركي في جرابلس وعدوه في دمشق. والإيراني مثله، شريكه في كسر التمدد الكردي وعدوه في حلب! والأميركي فوق الثلاثة! مع الأكراد في شرق الفُرات وضدهم في غربه! وضدهم في جرابلس ومعهم في الحسكة والرقّة! والأكراد شركاء السلطة الأسدية في الحسكة ثم أعداؤها فيها! ثم شركاء لها ضد الأتراك! في حين أن تلك السلطة «شريكة» (عن بعد) للأتراك ضد الأكراد! والإيراني مع الأميركي ضد «داعش»! وضدهم في مصير الأسد! والروسي مع الأكراد لحظة ومع أعدائهم لحظات! ومع الإيراني ضد «الإرهاب» والمعارضة، ومع الإسرائيلي ضد الإيراني و»حزب الله»! يغطّ في «همدان» اليوم ثم يهرول غداً هارباً من وطأة الجدال الإيراني! يستخدم أسلحة استراتيجية في معارك تكتيكية ولا يعرف كيف يتقدم ولا كيف يتراجع! يريد «انتصارات» من دون أكلاف مباشرة فيحصد هزائم لحلفائه على الأرض، ويرفض تحمّل المسؤولية!.. إلخ!
.. هذه مجرد عيّنات تعزز افتراضات الفوضى والغموض.. لكنها في الإجمال، وفي «التحليل الأخير» لا تلغي حقيقتين ماسيّتين: الأولى أن أي حل سياسي في سوريا لن يكون إلاّ على حساب بقايا سلطة الأسد.. والثانية، أن سوريا لن تكون لغير أهلها!