أثبت الإرهاب، وبالدم، وفي القاع، هذه المرة، أنه لا يميز بين من يستهدفهم بالقتل، أفراداً وجماعات… فكل اللبنانيين عنده هدف محتمل: يستوي في ذلك السنة والشيعة والدروز والمسيحيون من الكاثوليك أو الموارنة أو الروم الأرثوذكس والكاثوليك وصولاً إلى الإنجيليين.
فالإرهابي يرى في ذاته الدين والديان.. فهو يحتكر الله سبحانه وتعالى: يدعي أنه ينطق باسمه، وأنه ينفذ أحكامه ضد «الكفار» ولو في قلب الكعبة المشرفة (وقد احتلها الفصيل ـ المؤسس ذات يوم وقاتل فيها حتى القتل، بذريعة أنه منتدب لحماية الدين الحنيف.. من أهله)!
على هذا، فلا فرق عنده بين الضاحية الجنوبية من بيروت، أو العاصمة ذاتها، أو طرابلس بأحيائها المختلفة وصولاً إلى مخيم نهر البارد، أو صيدا وضاحيتها عبرا، فكل «الآخرين»، ومهما سموا بتدينهم أو حفظوا الله ورسالاته في وجدانهم، هم أهداف للقتل الجماعي الذي قد يمده إلى المساجد والحسينيات والكنائس.
ولقد ضرب من قبل مرات عدة، واختطف وقتل أبرياء، بينهم رجال دين مسيحيون (حتى لا ننسى المطرانين) ومسلمون، وأزهق أرواح نساء وأطفال وشيوخ في مجازر عديدة..
هذا في لبنان، أما في سوريا والعراق واليمن والسعودية ومصر وليبيا والكويت وتونس والجزائر، ومعها أو بعدها في باريس فرنسا وفي بروكسل بلجيكا، وأنحاء مختلفة من العالم، فقد ارتكب مجازر أودت بحياة المئات، وربما الآلاف، من الناس الطبيعيين، لا يهم أن تكون نسبة كبيرة منهم من المؤمنين بالله والرسالات السماوية، لا فرق بين أن يكونوا في رحاب مسجد أو على بابه، في ملعب رياضي أو في ناد خاص، أو عابرين في شوارع قلب المدينة.
على هذا، فالإرهاب واحد، لا يميز بين ضحاياه الذين يصنفهم كفرة، ويخطط لقتلهم جماعة، كلما أمكنه، أو فرادى إذا تعذر جمعهم في مكان عام… خصوصاً وأن السفاح إذا كان إرهابياً مفرداً، أو «العصابة المسلحة» كما في القاع، أو في مخيم برج البراجنة، فضلاً عن عرسال التي اتخذها رهينة، هو «المرجع» و «الديان» يقرر من هو «المؤمن» الذي يستحق الحياة، ومن هم «الكفرة» الذين لا يستحقون نعمة الحياة في أفياء «دولته» العتيدة.
من هنا، فإن الذين حاولوا «اختطاف» بلدة القاع، بعد الهجوم المزدوج على أهلها الذين ظلوا أهلها، وسيبقون على الدوام أهلها، متوسلين ذريعة الانتماء الديني، لعزلهم عن محيطهم (البعلبكي) بل عن سائر لبنان واللبنانيين، وتقاطروا من أنحاء كثيرة، ووقف بعضهم في «ساحة الضيعة» أو عند باب الكنيسة المستهدفة..
إن هؤلاء الذين حاولوا اختطاف بلدة القاع من موقعها في محيطها وبين أهله، الذين تجمعهم بهم أسباب الحياة والشراكة في الوطن كما في المصير، وأخيراً وليس آخرا كونهم جميعا مستهدفين برصاص الإرهابيين مفجري أنفسهم لكي يقتلوا أكبر عدد ممكن من النساء والأطفال والرجال..
إن هؤلاء الذين منحتهم العمليات الإرهابية الفرصة لأن يهرولوا إلى القاع التي بالكاد يعرفون موقعها أو الطريق الموصلة إليها، في محاولة، لاختطافها، والتمختر في استعراض رخيص في شوارعها بالسلاح (كأنما أهل القاع معزولون عن جيرانهم الذين كانوا دائماً جيرانهم وشركاءهم في الأرض ورزقها، وفي الوطن، يربطهم الانتماء إلى الأرض الواحدة والإيمان بالمصير المشترك… أو كأنهم لا يعرفون السلاح، وليس من بيت فيها إلا ومنه ضابط أو بضعة جنود في الجيش أو قوى الأمن، ثم إن السلاح هو خبزهم اليومي).
فالقاع ليست جزيرة محاصرة بالأعداء أو الخصوم، بل هي بلدة في «بلاد بعلبك»، سواء في بُعْدِ الدولة عنها أو في الإهمال الرسمي المتعمد لحقوقها على وطنها ودولتها، كما محيطها جميعاً، شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً إلى ما بعد الحدود مع سوريا… (وبعض البلدات المجاورة، كالهرمل دفعت من دمائها الثمن)..
ومؤسف، بل مهين، أن يقتحم بعض عناصر الميليشيا ذات التاريخ الدموي، ساحة القاع، ويقفوا أمام عدسات التصوير بالسلاح (المستعار!!) لكي يستثمروا جراح هذه البلدة البعلبكية التي تحيط بها بلدات مسيحية وشيعية وسنية (رأس بعلبك والفاكهة وعرسال الرهينة والهرمل وصولاً إلى اللبوة والعين..) عاش أهلها في تلك «البلاد» ـ وهي صفة تطلق على المناطق الساقطة من ذاكرة الدولة ـ منذ أن وجدوا فيها، حياة الأخوة الأشقاء وليس فقط كما الجيران والشركاء في المعاناة وانتزاع الرزق من الصخر كما من الأرض التي لا تسألهم عن طوائفهم أو أديانهم.
فالكل يعيشون خارج الذاكرة الرسمية… دون أن تمنع هذه الحقيقة تدفق بعض أهل النظام بالأمس، لكي تلتقط لهم الصور أمام جثامين الضحايا من أبناء القاع الذين «تخدم» نسبة كبرى منهم في الأجهزة الأمنية، الجيش أساساً ثم قوى الأمن بمختلف فروعها.
وكل اللبنانيين، الآن، في موقع الضحية.. تماما كما أن الإرهابيين واحد، لأي فصيل من القتلة انتسبوا!
وبديهي أن تجمع مقاومة الإرهاب، من ضنت عليهم الدولة بالاهتمام المطلوب.