وكأنّ المواطن اللبناني لم يكتفِ بالصفعات السياسية والمعيشية، لتطلّ الصفعات الأمنية وتقضّ مضجعه بعد غياب. ففي نفس التوقيت منذ 28 عاماً تذوَّقت القاع طعمَ الكأس الدامية ومرارتها، إنّما طعمها اليوم أكثر إيلاماً مِن الأمس البعيد، بعدما تعمَّد ترابُها بدم أحفاد الشهداء القدامى الذين استشهدوا وباعتقادهم أنّهم يفدون الأرض وأبناءَهم… وبأنّ شهادتهم ستجلب الفرجَ والحرّية بعد 28 عاماً.
في الأمس القريب التقينا أبناءَ القاع الذين أسقطوا المسافات وتكلّموا وتخوّفوا وهدّدوا وحذّروا، وها هم اليوم يثبتون أنّهم أصابوا عندما كشَفوا بصدق وشفافية مشاكلَ بلدتهم وهمومهم، وحاجتهم إلى الحماية وحضن الدولة ورعايتها.
شكا أهل القاع، في تحقيق أجرَته «الجمهورية» عام 2014، أي منذ سنتين، من ارتفاع عدد النازحين السوريين، الأمرُ الذي يفقِدها هويتَها، وكان هاجسُهم الأكبر الخطر القادم من حدودها، والذي أصبحَ بعد النزوح متفلّتاً ومفتوحاً أمام مختلف الأطراف والخلايا الأصولية.
يبلغ عدد سكّان مشاريع القاع 3000 مواطن شتاءً، أمّا صيفاً فيصل إلى 5000. وبالنسبة لعدد النازحين السوريين، فقد وصَل عددهم في شهر أيلول من عام 2014 إلى 8000 نازح، بحسب الاستقصاء الأخير لـ«الجمهورية» ، أمّا اليوم فيقارب الـ 30 ألف نازح.
الشهداء حذّروا الدولة
بالعودة إلى الأهالي، بمن فيهم الشهداء الذين سقطوا البارحة دفاعاً عن أرضهم وأبناءِ بلدهم، فقد حذّروا بشخصهم في الماضي من ظاهرة تسليح النازحين ولم يحذّروا من جنسيتهم السورية، كاشفين أنّ النازحين يتسلّحون وأنّ الأمر يشكّل خطراً على أبناء البلدة، لافتين إلى أنّ البعض من النازحين احتلّ أراضي القاع دون رادع، ولم يستطع أحد منعَهم خوفاً من عددِهم وسلاحِهم.
كما أكّد الأهالي أيضاً ومنذ أكثر من سنتين حاجتَهم الماسّة إلى الأمن، معلنين في أيلول 2014 أنّ شباب القاع وشِيبَها قرّروا اللجوء إلى الحماية الذاتية، بعدما تزايدَت مخاوفهم من إشارات الخطر القادمة ومِن تفلّتِ الأمن بسبب عدد النازحين وسلاحِهم، بالإضافة إلى تفلّت الحدود ولجأووا إلى ظاهرة المناوبة على حراسة الأرض بالتنسيق مع الجيش اللبناني، خصوصاً أنّ القرى المحيطة بمشاريع القاع متاخمة لخطوط ناريّة.
بين الأمس واليوم
هذا في الأمس البعيد، أمّا في الأمس القريب، فقد استيقَظ لبنان قبل الفجر على دويّ أربعة انفجارات تلتها مساءً أربعة أخَر تؤكّد هواجسَ الشهداء وأبناء بلدة القاع المنكوبة. وتحسم الوقائع أنّ الخلايا التي تخوَّفَ منها الأهالي لم تعُد نائمة، بل استيقظت. وأنّ الأمر الذي حذّرَ منه الأهالي منذ قرابة السنتين بدأت تتظهّر عواقبه.
ترهيب المسيحيين؟
وبعكس هواجس البعض، لم يضَع الخبراء والمحلّلون الحدث في إطار بدءِ مشروع ترهيب المسيحيين وترحيلِهم، لافتين إلى أنّ على اللبنانيين قراءة الحدث بصورة شاملة وليس تحت ضغط هذا الحدث.
وفي السياق، أوضَح الخبير العسكري العميد المتقاعد خليل حلو أنّه «لا يمكن تناسي العمليات الاستباقية التي قام بها الجيش وشعبةُ المعلومات، والإنجازات التي تحقّقت على الجبهة الممتدّة من عرسال إلى القاع خلال السنتين الأخيرتين لأنّه حصَل خرقٌ في القاع مرّةً واحدة، وهو لا يقارَن مع الخروق الذي حصَلت في باريس وبروكسل، فمحصّلة عملية القاع 8 إرهابيين قضوا، واستشهد 5 مديين، فيما استشهد في باريس 110 مواطنين».
ولفتَ حلو إلى أنّه ومنذ بداية رمضان وحتى اليوم تقوم «داعش» بعملياتها خارج المسرح السوري والعراقي، وخصوصاً أنّهم يتعرّضون اليوم لضغوط عالية في الفلّوجة وشمال حلب ومنبج»، مشيراً إلى وقوع 10 تفجيرات إرهابية في اليمن باليوم نفسِه الذي تمّت فيه عملية القاع، ولذلك لا يمكن تحجيم الحدث ووضعُه في خانة تهجير المسيحيين».
وأشار إلى موقع القاع الجغرافي المتاخم لوادي العاصي ومجرى العاصي الذي يُعتبر ممر المقاتلين التابعين لـ»حزب الله» إلى حمص، وهو الممرّ الأساسي الذي يستعمله الحزب.
أمّا عن هدف الانتحاريين من العملية فهو:
1 – زرعُ الرعب في وجه أعدائهم في حال تمّ الاشتباك معهم.
2 – إستقطاب شباب جاهلين متحمّسين لأهداف متشعّبة، للانخراط في صفوفهم، لأنّ التجنيد من أوروبا خفّ بعد ضبطِ الحدود مع تركيا. لذلك من الضروري تجنيد بدلاء.
ورأى حلو أنّه «لا يمكن اعتبار النازحين جميعهم دواعش، والحلّ ليس في ترحيلهم إلى سوريا، لأنّ تكلفةَ عودتهم مرتفعة وتفوق تكلفة إقامتهم، في الوقت الذي لم تسدّد حتى اليوم الدولُ المانحة التزاماتها تجاه تمويل نزوحِهم»، مشيراً إلى أنّ «حدود لبنان الشمالية مضبوطة عند النهر الكبير، أمّا بالنسبة إلى حدود لبنان الشرقية فهي متفلّتة، من وادي خالد وصولاً إلى بريتال»، لافتاً إلى أنّ «هناك أكثر من 200 معبَر غير شرعي، وإذا انتشر الجيش بمجمله فهو لن يكفيَ للحماية»، كاشفاً عن عدة حلول لضبط الحدود قدمتها ألمانيا وإنكلترا، إلّا أنّ الدولة «تغنّجَت» في السابق لإبقاء ممرّات مفتوحة لمقاتلي «حزب الله»، لكنّها اليوم قبلت بهذا الأمر».
مِن جهته، قال الدكتور فؤاد أبو ناضر لـ«الجمهورية» أنّ «المشروع ليس ترهيب المسيحيين، وهو ليس داخليّاً، بل هو مشروع غريب يقيم على أرض لبنان ويعيث فيها فساداً، وهو ليس مشروع ترحيل المسيحي، كما حصَل في العراق أو سوريا».
خطة العمل
أمّا عن خطة العمل، فيقول: «نحن ضدّ قيام ميليشيات، بل نحن مع الاتّكال على الجيش، وإذا الجيش أراد المساعدة عبر شباب الاحتياط أو ما يسمّى أنصار الجيش لمؤازرته»، مشيراً إلى أنّ «شباب القاع الذين يملكون الأسلحة يقومون بالمناوبة على الحراسة ليلاً لحماية القاع، ومنذ سنتين حتى اليوم تغيّر الأمر، والوضعُ في السابق كان أسوأ بكثير من اليوم، بعد أن تمكّن الجيش من الأرض أكثرَ مِن السابق وأحكمَ قبضتَه وسيطرته على الجبهة الشرقية».
وفي السياق، يطالب أهالي القاع اليوم بدخول الجيش إلى مشاريع القاع والتفتيش داخل كلّ الخيَم، كي يفهمَ السوريون النازحون أنّهم يخضعون للقانون، فلا ينبت للبنان مخيّمات فلسطينية جديدة.
أمنياً
وبالعودة إلى الوضع الأمني، فقد أفادت معلومات أمنية لـ»الجمهورية» أنّ الجيش كشفَ نهاية الأسبوع الماضي عملية إرهابية، وصفَها مسؤول أمنيّ بالخطيرة»، مشيرةً إلى أنّ معلوماتٍ توافدَت عن عمليات محتملة، إلّا أنّ الحدث المتوقّع كان أكبرَ بكثير من عمليات القاع.
إلى ذلك، قرّرت البلدية اتّخاذ إجراءات متشدّدة أكثر تجاه النازحين، وستساعد مالكي الأراضي القاعيين على استرجاع حقوقِهم والاستفادة من أراضيهم، بعدما استملكَها النازحون.
وفي المعلومات التي تُحيي الأمل بثبات المواطنة، فعلى رغم الوجَع والحزن والألم، لم يفكّر أحدٌ من أبناء القاع بالمغادرة مع عائلته إلى بيروت، بل العكس، فمختلف القاعيّين المقيمين في بيروت، من الدكوانة وعلى طول الساحل وكافة مناطق العاصمة، اتّصَلو بالشباب للقول: «نِحنا طالعين نساعِدكن بالحماية يا شباب»، ليثبِتوا مجدّداً أنّ العلاقة بالأرض والتشبّثَ بها تبقى وحدها مصدرَ الأمان والحرّية. وإنّ المناوبة على الحراسة التي اتّبَعها شباب القاع كانت مِن أهمّ الخطوات التي ساعدت على كشفِ المخططات التفجيرية.