IMLebanon

القاع ساحة كرّ وفرّ مع الانتحاريين: لن يقتلعونا من أرضنا

تعتبر نجوى مخلوف، السيدة الخمسينية، المنقذة الثانية لبلدتها القاع بعد شادي مقلد ووالده طلال اللذين أفشلا مخططاً للإرهابيين لم تتضح معالمه بعد، ومعه أهدافه التي جُند لها أربعة انتحاريين أرغموا على تفجير أنفسهم في بقعة ضيقة فجر أمس الثلاثاء على أطراف القاع لجهة الحدود السورية.

بعد التفجير الانتحاري الثاني، كان قد وصل إلى المكان أكثر من خمسين شخصا من أهالي القاع. وقفت نجوى على مصطبة دارها المتصلة بالطريق الحدودية الرئيسية نحو سوريا، وعلى بعد عشرة أمتار فقط من التفجيرات الانتحارية الأربعة، وبدأت تصرخ بالحاضرين «ما تقربوا، ما تقربوا، ما حدا عارف شو ممكن يصير بعد». تقول نجوى، التي تحمد الله أن ابنها التحق بمركز عمله في بيروت قبل الانفجار بساعات «وإلا كان أكيد راح لا سمح الله»، إنها دفعت بكثيرين ايضاً لتمنعهم من العبور نحو التفجيرات.

وفعلاً لم تمض أكثر من خمس دقائق حتى دوّى التفجير الثالث ثم تلاه الرابع، ليسقط خمسة شهداء من القاعيين و17 جريحاً، بينهم أربعة عسكريين.

قبل نجوى، كان شادي مقلد، الشاب الثلاثيني قد أتم المهمة الأساس. كان شادي الذي ولد في القاع، بينما تعود جذوره إلى بلدة جرجوع الجنوبية في إقليم التفاح، ما كاد يتم وجبة سحوره حتى شعر بحركة حول منزله الكائن على بعد نحو عشرة أمتار من مركز الجمارك اللبنانية والأمن العام وبعدهما مخابرات الجيش، وعلى بعد أمتار من مركز لواء الحدود البري في الجيش اللبناني.

خرج شادي ليجد أربعة أشخاص يحيطون بمنزله: «من أنتم؟» سألهم الشاب الثلاثيني. «نحن مخابرات جيش»، قالوا له بكل ثقة. طلب شادي بطاقة المخابرات من الشباب الأربعة، فقالوا له «نادِ على الجيش ليأتوا ويعرفوك علينا». هنا شك شادي بالأمر فدخل إلى منزله وجاء ببندقية صيد ليطلق النار منها نحو الانتحاريين، ففجر أحدهم نفسه على الفور، فأصيب شادي ووالده طلال مقلد.

ومع سماع دوي التفجير، بدأ جيران شادي بالتوافد ومعهم آخرون من قلب البلدة وأطرافها، للوقوف على ما يحصل. معظم هؤلاء من العسكريين المتقاعدين في القاع، فيما أكمل الانتحاريون تفجير أنفسهم تباعاً.

ومع التفجير الانتحاري الرابع كانت القاع كلها قد استيقظت على وقع الصدمة، ليبدأ صباحها الحزين مع سقوط خمسة شهداء من أبنائها و17 جريحا بينهم أربعة من مخابرات الجيش.

هذه الصدمة، وبرغم الحزن الكبير على الشهداء، حملت في طياتها «حمداً لله» على النجاة مما هو أفظع وأكبر. كان واضحاً أن اكتشاف شادي وطلال مقلد للانتحاريين الأربعة أجهض مخططاً إرهابياً، ربما سيكون أكبر وأفظع مما رست عليه نتائج أمس على مأساويتها. فهل كان الانتحاريون ينتظرون من يقلهم إلى مناطق أخرى؟ هل كانوا سيتوجهون فرادى كل إلى أحد مراكز القوى الأمنية المنتشرة في المكان: الجمارك والأمن العام ومخابرات الجيش ومركز لواء الحدود البري في الجيش اللبناني ليفجروا أنفسهم في اللحظة عينها؟ هل كانت الهرمل، جارة القاع، هي المقصودة في ليالي إحياء ليلة القدر؟ أو في أمسياتها الرمضانية؟

أسئلة كثيرة كانت محور حديث أهالي القاع وزوارهم على مصطبة رئيس بلدية البلدة الأسبق عيد مطر الذي نجا بدوره من التفجير الانتحاري الثاني.

يبعد بيت مطر عشرة أمتار عن مكان التفجير الأول. هرع الرجل بثياب النوم على وقع دوي الانفجار وسماع صوت صراخ طلال وابنه شادي. رأى شابا يافعاً يقول عيد إنه «أقرب إلى الفتى منه إلى الرجل، يرتدي زياً كحلياً وحليق الذقن». أمسكه مطر وهزه من كتفيه وسأله: «من أنت؟». لم يرد الشاب فيما علا صوت شادي مقلد المصاب نتيجة التفجير الأول. تنبه مطر إلى ضرورة إسعاف شادي فركض نحو منزله ليأتي بهاتفه للاتصال بالصليب الأحمر. ما إن وصل عيد إلى مصطبة داره حتى دوى الانفجار الثاني. لدى عودته إلى المكان تعرف عيد إلى الانتحاري الثاني «كان الشاب نفسه الذي أمسكته بيدي».

هناك لم تكن القاع وحدها معنية بما حدث. القوى الأمنية تمركزت بآلياتها وعناصرها في ساحة البلدة، وتحديداً أمام كنيستها. الأدلة الجنائية كانت ما زالت في مكان التفجير فيما أشلاء الانتحاريين، وبينها رؤوسهم، تملأ المكان. بعض من أهالي الهرمل ورأس بعلبك والجديدة والفاكهة والقاع جاؤوا يتفقدون جيرانهم وأهلهم، وربما أنفسهم في ذلك الشريط الممتد في سفح سلسلة جبال لبنان الشرقية على الحدود مع سوريا حيث يتمركز تنظيم «داعش» على بعد ستة كيلومترات فقط من آخر منازل القاع في أسفل التلال الحدودية.

هنا في القاع، عاد الأهالي الذين استكانوا في الفترة السابقة، ونظموا أنفسهم في نوبات حراسة ليلية، بدءا من ليل أمس، مخافة أن يتكرر «المسلسل الداعشي» الرابض عند حدود قريتهم.

وحده مشهد نحو أربعين سيارة آتية من بيروت قدم أجوبة شافية على ما حصل. «القاع لن تتهجر» يقول وجيه التوم الذي اتكأ على جذع شجرة «هذه الأرض التي أورثنا إياها جدودنا سنورثها لأحفاد أحفادنا وليس لأولادنا فقط». قيمة كل «قاعي»، بالنسبة إليه، هي في بلدته و «لو بتوقف المي عامود»، ويلي بده «يتحدى يجي بالنهار وأهلا فيه، مش متل الحرامي بالليل وعم ينتحر فينا».

لا يختلف رأي ميلاد البيطار، عضو مجلس بلدية القاع، عن رأي التوم. عند الخامسة فجراً كانت أخبار التفجيرات الانتحارية قد وصلت إلى حي «القاعيين» في منطقة الدكوانة في بيروت. نصف ساعة كانت كافية ليجمع رجال البلدة، الذين نزحوا عنها سعياً وراء فرصة عمل وتعليم أفضل لأبنائهم، لينطلقوا باتجاه بلدتهم. يقول البيطار إنه وشباب البلدة ورجالها عادوا ليؤكدوا أنهم لن يتركوها تحت أي ظرف.