ثلاثة أشهر مضت على ترك الشيخ محمد رشيد قباني منصبه مفتياً سابقاً للجمهورية. خمسة وأربعون عاماً صرفها في الأزهر والمحاكم الشرعية والأوقاف ثم في رئاسة الإفتاء. لكن ختامها لم يكن مسكاً بحق المفتي الذي دفع ثمن تحالفه مع فريق سياسي دون الآخر. حتى المبادرة المصرية التي سوّت خلافه مع تيار المستقبل انقلبت على فريقه
ليس صعباً التواصل مع مفتي الجمهورية السابق الشيخ محمد رشيد قباني بعد ثلاثة أشهر من انتهاء ولايته التي استمرت 25 عاماً. ابن أحد أبرز علماء بيروت، الشيخ راغب القباني الحسني، لا يضيع في مسقط رأسه. عند مدخل المبنى، حيث مقر إقامته ومكتبه في تلة الخياط، لم يغادر العناصر الأمنيون التابعون لجهاز أمن السفارات المكلفون بحمايته الشخصية وحماية منزله، وإن قل عددهم. عند تسليمه الدار، سلّم قباني السيارتين المصفحتين اللتين كانتا موضوعتين في تصرفه. حمل أغراضه الخاصة من عائشة بكار. جزء منها أودعه في شقته الأساسية وجزء حمله معه إلى شقة تلة الخياط، حيث «أحرص على تجديد جردة محتوياتها كل حين»، ما يملكه منها وما كان فيها عندما تسلمها، لكي يكون أميناً مع نفسه والآخرين في حال تبدلت الأحوال.
منذ منتصف أيلول الماضي، غاب أثر قباني حتى ظهر مجدداً مطلع الشهر الجاري، عندما توجّه إلى الفاتيكان للمشاركة في قمة القادة الدينيين في العالم. المدعو الأوحد من لبنان بدا إثر عودته وكأنه استعاد نشاطه. أصدر مواقف حول بعض القضايا لا سيما التطورات الحاصلة في ملف دار الفتوى في عهد خلفه الشيخ عبد اللطيف دريان. يؤكّد المفتي السابق الذي سمع وعوداً سعودية (لم تصدق بعد) قبيل انتهاء ولايته بتعيينه في مقام علمائي إقليمي، أنه اليوم «رجل فكر وبحث»، ولكن «لن أكون جزءاً من أية هيئة أو مؤسسة ولا تشكيل علمائي أو غير علمائي. سأبقى إنساناً مسلماً متعاوناً مع كل الذين يفكرون في حاضر ومستقبل وطنهم لبنان وشعبه».
بين جدران شقته، يتنقل قباني مثقل الخطى. لكن ملامحه باتت أكثر هدوءاً. ظن البعض أن سبب الغيبة هو الزعل والخيبة من «خربطة» تيار المستقبل لسيناريو التسلم والتسليم بينه وبين دريان. يومها، غادر الدار من دون أن يسلم خلفه رسمياً. لكن السبب، كما يؤكد، كان مرض الديسك الذي أصاب ظهره. وبرغم أنه أقعده في الفراش طوال شهرين، إلا أنها كانت فرصة جيدة «لكي أتأمل وأدوّن استنتاجاتي براحة وهدوء وتفكير عميق في مسائل كثيرة، وهو ما لم يكن يسمح لي به الضغط اليومي وتلبية الواجبات سابقاً». خلاصة انطباعه عن عمله في الشأن العام يختصرها بالآية القرآنية «يا حسرة على العباد».
كنا ضحية خديعة
في المبادرة
المصرية والطرف الآخر نكث بالتزاماته
حسرة تنسحب على حديثه حول محطات كثيرة. الصدق والوفاء والأمانة، لوازم تتكرر في حديثه. لكنه طوى فصولاً عدة من الماضي. منها الدعاوى القضائية التي رفعت بحقه وحق نجله راغب «لأن أي شخص يستطيع أن يدعي ويشكك ويفتري». وفي هذا الإطار، يعتبر أن أحكام مجلس شورى الدولة التي أبطلت قرارات اتخذها في السنوات الأخيرة «تأثرت بدوافع الحملة السياسية وأغراضها».
يقر بأن المبادرة المصرية لم تعد المياه إلى مجاريها مع حلفاء الأمس. الخلاف مع المستقبل لم ينشأ عند تأييده لتكليف نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة خلفاً للرئيس سعد الحريري. «هؤلاء لا يريدونني ويكرهونني لأني أعارض في بعض الأمور التي يريدونها مني. فهم ما اعتادوا أن يقال لهم لا لشيء إذا أرادوه». بحسب قباني، فإن «قلوبهم مليانة» منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، وهذا ما دفع بشخصية وازنة الى القول له «أنت جئت مفتياً بالغلط». يذكّر بقضية مقبرة السُنطية في الوسط التجاري التي قررت «سوليدير» تحويلها إلى ساحة عامة زاعمة أن الرفاة ألقيت في البحر خلال الحرب الأهلية. رفض قباني المشروع حتى تدخل الرئيس رفيق الحريري، موعزاً بإيقافه وصيانة المقبرة. وبرغم تعهد «سوليدير» خطياً بذلك، إلا أنها لم تنفذه بعد. يرى قباني أن من أسباب الكره له، وقوفه ضد التعديلات المقترحة على المرسوم 18 «التي تقزّم صلاحيات مفتي الجمهورية وتجعله موظفاً وتابعاً». الخلاف ظهر لاحقاً مع رفضه تمديداً ثالثاً للمجلس الشرعي الأعلى عام 2011، بعد تمديدين لعامين متتاليين «اضطر للقبول بهما بالتمديد لهما على مضض ومرارة»، الى أن «كان الانفجار الكبير في الخلاف عند رفضي الدخول معهم ضد تكليف ميقاتي». من حسب طويلاً على آل الحريري يقر اليوم بأن «العلاقة المتميزة مع المستقبل أدت إلى موقف من قبل الفريق الآخر ضدي وانقلبت عليي عندما كلف ميقاتي». الآن، يجزم: «لست حليفاً لا للمستقبل ولا لغيره بل صديق للكل وأتصرف كمسؤول. لكن كل فريق كان يريد أن ينتزعني من نفسي لأكون صوته وانا لن أقبل بمصادرة صوتي». يستعيد الحملة التي طاولته عندما استقبل وفداً من حزب الله في دار الفتوى: «أنا لا انتقل من محل إلى محل وأستقبل الجميع. عندما استقبلت الحزب لم أكن أدخل معه حواراً، وليست لي خصومة معه أو مع غيره». وحول حوار المستقبل والحزب قال قباني إنه «مع الحوار ولا نريد محاربة بعضنا البعض. بالأصل كان لا يجوز أن يحدث انقطاع».
برغم كل ما طاوله سياسياً وقضائياً من المستقبل وصولاً حتى حشد تواقيع قضاة الشريعة لعزله، وافق قباني على المبادرة المصرية «إذ كنت أظن أنها ستتمتع بالمصداقية لدى الطرف الآخر. الذنب ليس ذنب الوسيط المصري، إنما عدم وفاء الطرف الآخر ببنود الاتفاق لا سيما إنهاء عملية التمديد المستمر للمجلس الشرعي». يجزم قباني: «أننا كنا ضحية خديعة في المبادرة». لا يشمل قباني خلفه دريان بالمخادعين. «نحن على تواصل مستمر كلما كان هناك موضوع يتطلب جهوداً وطاقات مشتركة لخدمة الإسلام والمسلمين، وأتمنى له التوفيق». وماذا عن قرار دريان الأخير بإقصاء مفتي المناطق الذين عينهم قباني؟. «لا تعليق. إذ لا يجوز أن نعطل المسيرة بسبب جزئيات مستغربة وغير حكيمة»، راجياً الله «أن ينزع الغل من النفوس».
يؤكد أن فكرة مصالحته مع سعد الحريري سبقت المبادرة بأشهر. رئيس مكتب الأخير نادر الحريري اجتمع بنجله راغب، لكن الأمر لم يتوّج بلقاء الرجلين بسبب تدخل الرئيس فؤاد السنيورة الذي يتمنّع المفتي السابق عن ذكر اسمه ولو تلميحاً. جرت المصالحة مع الحريري لاحقاً في الغداء الذي أقامه الأخير في بيت الوسط على شرف دريان بعد انتخابه مفتياً. وينقل عن الحريري استياءه من تطور الأمور في المنحى الذي سارت فيه وتساؤله: «ما الذي جرى؟ لماذا أدخلونا في هذه الخلافات؟»!