لو لم يقل رئيس البرلمان الايراني محمد باقر قاليباف ما نقلته عنه صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية في عدد امس، لاضطر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الى كظم امتعاضه وغضبه من اللقاء الذي جمعه به السبت المنصرم (10 تشرين الاول) بعد ستة ايام على استقباله وزير الخارجية عباس عراقجي. كلا الاجتماعيْن كانا سيئين للغاية. سمع من الرجلين ما لم يُرد ان يسمعه. اسرّ في ما بعد الى رئيس البرلمان نبيه برّي كما الى الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ما ادليا به في السرايا. لم يَخفَ ردّ فعل جنبلاط غداة زيارة عراقجي وانزعاجه هو الآخر، ومناداته من ثم بفصل جبهة الجنوب عن جبهة غزة.
في زيارتيْ المسؤوليْن الايرانييْن، اصغى ميقاتي الى الكلام نفسه. بينما حكى عراقجي بفجاجة، ظهر قاليباف اكثر مرونة. لم يكن عبوس رئيس الحكومة طوال الاجتماع الاول ووقوفه فجأة ايذاناً بانتهاء استقباله عراقجي سوى دليل على انه لم يعد يريد سماع المزيد. مما قاله الوزير الايراني:
ـ على لبنان ان يصمد بعد.
ـ على الحكومة اللبنانية دعم المقاومة ومساعدتها. لبنان من دون مقاومة لن يبقى له اي دور في المجتمع الدولي.
ـ على الحكومة اللبنانية تعميق تعاونها مع ايران في المرحلة الحالية والتعويل عليها.
ـ كان على الحكومة اللبنانية الطلب من سفارات الخارج فتح سجل تقبّل التعازي بالامين العام السابق لحزب الله السيد حسن نصرالله، وان تقود حملة ديبلوماسية منددة باغتياله.
المهم الذي لم يأتِ على ذكره في الاجتماع، ثم ادلى به امام وسائل الاعلام كان تمسّك ايران بربط جبهة الجنوب بجبهة غزة.
ما قاله قاليباف تكرار لعراقجي خصوصاً انهما اخذا على عاتقيْهما دونما تكليف، كل على حدة، اطلاق حملة ديبلوماسية لدعم لبنان في المحافل الدولية على الطريقة الايرانية: الاول لدى منظمة المؤتمر الاسلامي، والثاني في مؤتمر رؤساء البرلمانات الدولية في جنيف.
اما ما لم يقله قاليباف في بيروت، فقد أفصح عنه لمراسل «فيغارو» بابداء استعداد حكومته التفاوض مع فرنسا على اجراءات تطبيق القرار 1701، ولم تكن انقضت ايام على زيارته بيروت داعياً المسؤولين اللبنانيين، كما عراقجي من قبله، الى عدم استعجالهم تطبيقه قبل جلاء وقائع الارض في ضوء العمليات العسكرية.
بحسب الصحيفة الفرنسية، قدّم قاليباف نفسه للبنانيين في 12 تشرين الاول على نحو استعراضي بأن قاد بنفسه طائرته. تحدثت عنه انه الرجل الثالث في «النظام الديني الايراني»، قائد سابق لطائرة فانتوم في الحرب الايرانية – العراقية ومحافظ سابق لطهران والقائد السابق للقوات الجوية التابعة للحرس الثوري. اما ما نقله عنه مراسلها من جنيف، مبرّراً مطالبته بوقف سريع ومتاح للنار في جنوب لبنان، فاعتقاده ان استمرار الحرب الحالية في لبنان يصبّ في مصلحة اسرائيل خلافاً لما حدث في حرب تموز 2006، بعد 33 يوماً، بأن كان استمرارها وقتذاك لمصلحة حزب الله، كي يقول من ثم ان حكومته مستعدة للتفاوض مع فرنسا على اجراءات تطبيق القرار 1701.
اربع ملاحظات حيال ما توخاه كلام قاليباف:
اولى، توقيت تصريحه في مرحلة يصرّ لبنان الرسمي على الظهور امام المجتمع الدولي – خلافاً للمعتاد عليه معه – انه ذو موقف موحد سواء بانضمامه الى البيان الاميركي – الفرنسي في نيويورك (26 ايلول) او البيان الثلاثي (2 تشرين الاول) الصادر عن برّي وميقاتي وجنبلاط بعد ملاقاته بترحيب وطني واسع بالمطالبة بوقف فوري للنار، والذهاب الى مباشرة تطبيق القرار 1701 وارسال الجيش اللبناني الى الجنوب. اذا كلام قاليباف – غير ذي صفة في الاصل وغير معني بمندرجات القرار وغير مكلف اي دور فيه – يضع لبنان في موقع الدولة العاجزة عن اتخاذ قرار او التفاوض، ويتصرّف على انه هو المؤهل التحدّث عن حزب الله وباسمه – وهو حق ربما لما تمثله ايران من مرجعية دينية وسياسية للحزب – لاتخاذ قرار بوقف النار والضمانات الملازمة لتنفيذه.
ثانية، ليست ايران معنية بالتفاوض على تطبيق القرار 1701 ولا فرنسا رغم انها احدى الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن وتملك حق الفيتو ناهيك بحسب «فيغارو» أنها تضطلع بدور الوسيط بين اسرائيل وحزب الله. مذ صدر القرار اضحى في عهدة مرجعيات ثلاث هي المعنية وحدها بتطبيقه: مجلس الامن صاحب اختصاص الاصدار والمعني بتفويض القوة الدولية المشاركة في تطبيق احكامه، اسرائيل ولبنان الدولتان المكلفتان التزام تنفيذه.
ثالثة، ان الضمانات المفترض تلازمها مع اي وقف للنار عندما يحين اوانه، لا تحتاج الى دور لايران وليست معنية بتوفير اي تعهدات لاستمراره والمحافظة عليه على نحو ما هو منوط بالحكومة اللبنانية، المكلفة وحدها تنفيذ قرار مجلس الامن. ضمانات التنفيذ هذه متبادلة، اسرائيلية ولبنانية في آن وفقط.
رابعة، ما لا يفصح عنه حزب الله، وهو ان اي وقف للنار في الوقت الحاضر يستعيد النتائج التي انتهت اليها حرب 2006 بانسحاب اسرائيل الى وراء الحدود الدولية وانسحاب مقاتليه الى شمال الليطاني، بحيث فُسرّت البقعة الممتدة بين شمال نهر الليطاني والخط الازرق على انها اكثر من حزام عازل كي تُحسب عملياً منطقة فصل بين اسرائيل وحزب الله تتيح لهما في ما بعد العودة الى المواجهة، كما تكرّس توازن الامر الواقع. ذلك ما يحدث الآن. بانتهاء حرب تموز 2006 أثمن ما اعتنى به حزب الله ليس تسليمه بالانسحاب الى شمال نهر الليطاني، بل تمكّنه في اقل من عقدين من الزمن من اعادة بناء قدراته العسكرية ومراتبه القيادية وتدريب قواعده وإثقال اسلحته بما لم تخض به حرب تموز. هو مغزى ما قاله قاليباف للصحيفة الفرنسية، ملمحاً الى رغبته في رؤية وقف للنار في اسرع وقت يوقف تدحرج حرب تدمير الآلة العسكرية كلها لحليفه حزب الله، كي يتيح له لاحقاً اعادة بنائها رغم الخسائر الجسيمة غير المسبوقة والصعبة التعويض المتوالية باغتيال عقول عسكرية مجرّبة ومتمرّسة وقادة ميدانيين كما بتغييب المرجعية التي مثلتها الهالة الاستثنائية لأمينه العام الراحل.
بينما تعمل اسرائيل بضراوة ووحشية غير مشروطتين على ان تكون هذه آخر حروبها العسكرية مع لبنان بالتزامن مع هدفها تصفية الماكنة العسكرية لحزب الله، تريدها ايران واحدة في سلسلة الحروب العقائدية من اجل القضية.